لنحسم الطرح من البدء، ونقول إن
فيسبوك وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بوجه عام، هي أدوات اتصال وليست أدوات تواصل. هي وسيط بين باعث الرسالة ومتلقيها، لا تفاعلية نفسية أو إنسانية كبيرة تذكر فيها. في حين أن التواصل هو، على العكس من ذلك، ترجمة لحالة حميمية، تعبر عن القرب، وتكون التفاعلية فيها مباشرة دون وسيط، أو لنقل دون موسطة أدواتية تذكر. هذا تمييز نادرا ما نهتم به لدى تعرضنا للتكنولوجيا كمجموعة وسائط وأدوات وأعتدة، حتى بإيماننا بأنها تعبر حقا عن ثقافة وحضارة ومنظومات قيم.
بالتالي، ففيسبوك، والشبكات الاجتماعية عموما، هي أدوات اتصال بين شخوص قد لا نعرفهم بالمباشر الحي، حتى وإن كنا نتقاسم معهم بعض الانشغالات أو القضايا. وهو من هنا شبكة اجتماعية للاتصال وليس أداة للتواصل، حتى بوجود اختيارات للتواصل الشفوي عن بعد.
من جهة أخرى، فإننا لا نتوفر حقيقة، على دراسات دقيقة عن عدد وطبيعة وغايات السياسيين الذين يحتكمون على مواقع أو صفحات في فيسبوك. لكن يبدو لنا أن المواقع التي سبق لنا الاطلاع عليها، تعطي الانطباع بأن المسألة هي إلى الموضة منها أقرب إلى التطلع للاتصال والتواصل مع المواطنين، بدليل أن العديد منها يغلق حتى وإن كان السياسي لا يزال يفعل بالميدان العام، لا بل إن ما يطرح بصلبها من مواد ومضامين لا تقدم في النقاش كثيرا، وغالبا ما تنهل من معين الذاتية الخالصة.
ونعتقد أيضا أن الغاية من فتح بعض السياسيين لمواقع لهم على فيسبوك، إنما غايتها الظهور بمظهر المواطن العصري الحداثي، والمواكب للتطورات التكنولوجية. وهناك منهم من يريد، فيما نزعم، أن يعطي الانطباع بأنه فرد بالشبكة كباقي الأفراد المبحرين من بين ظهرانيها، وأنه مثلهم يتصل ويتفاعل ويتبادل الرأي والأفكار.
إن في المسألة ما يشي بالموضة الخالصة؛ لأن فيسبوك من هذه الزاوية، إنما يبدو بعيدا كل البعد عن أن يتحول إلى أداة لإثارة القضايا الجادة وطرحها في الفضاء الافتراضي العام للتداول والنقاش.
السياسة عندنا بوار، والنقاش حولها أو فيها شبه غائب، والفاعلون السياسيون أصبحوا أقرب إلى المهرجين منهم إلى القادة والزعماء السياسيين. إذا كان الأمر كذلك بأرض الواقع، فكيف سيكون عليه الحال بالشبكة؟ ومع ذلك، فإن هذا لا يعفينا من ضرورة القول بالحاجة إلى دراسات دقيقة لمعرفة صفات ومواصفات وغايات هؤلاء وأولئك.
كيف يمكن لفيسبوك أو غيره من مواقع
التواصل الاجتماعي، أن يشكل مركز تفاعل ونقاش مع أصحاب القرار؟
يمكنه أن يكون كذلك لو استطاع أن يقوض الطابع الهرمي الذي لا يزال يميز طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو لنقل بين السياسي والمواطن العادي. هذه مسألة إشكالية كبرى. بمعنى أن المفروض أن تكون الشبكات الاجتماعية، وفيسبوك تحديدا باعتباره "كبير سحرة" هذه الشبكات.. المفروض أن تكون أدوات لتوسيع الفضاء العام، وتحويله إلى رافد من روافد الاستراتيجية الاتصالية لرجل السياسة الفاعل فيها والمتفاعل مع أطرافها وعناصرها.
ويمكنه أن يكون كذلك لو احتكمنا إلى زاوية رجع الصدى بين ما يقترحه المواطن، وما يعمل السياسي على ترجمته بأرض الواقع. الحاصل، أن السياسيين، لا سيما الذين لهم حسابات في الشبكات الاجتماعية، لا يعيرون هذه الزاوية كبير اعتبار. إنهم يتصلون من أجل الاتصال، أو لنقل يتصلون للتعبير عن كينونتهم ووجودهم الواقعي في الفضاء الافتراضي.
ويمكنه أن يكون كذلك أيضا لو كانت العلاقة بين السياسي والمواطن البسيط انسيابية وتفاعلية، ومبنية على ثقافة الاتصال ورجع الصدى. ويبدو لنا بهذه النقطة أيضا أننا لا نزال بعيدين عن ذلك في الشكل كما في المضمون.
إن العبرة في التكنولوجيا هي بالاستخدام وليست بالوصول.. أعني الوصول إلى الشبكات والارتباط بها بهذا الشكل أو ذاك. الحاصل عندنا، أي في معظم البلدان العربية، أننا إنما انتقلنا إلى تكنولوجيا العصر بذهنية متخلفة ومتقادمة، أو لنقل انتقلنا إليها دون تحديد الحاجة إليها ومنها.
ثم إن الشبكات الاجتماعية تستوجب للإفادة منها؛ توفر مناخ من الحرية المفروض أن يكون متوفرا قبليا بأرض الواقع، لا بل هو شرط وجوب لذلك. هذه الشبكات لا تخلق هذا المناخ، إنها توسع من مجاله.. تفسح له في الأفق وتعطيه فضاء أوسع، في حين أن مجتمعاتنا لا تزال تشتغل وفق منطق اتصال عمودي، هرمي، أبوي وتبعي. وهذه أمور لا تتساوق مع فلسفة الشبكات الرقمية، وضمنها الشبكات الاجتماعية.
إن المفروض هو العمل على أن تتقوض بداخل هذه الشبكات كل أشكال الهرمية والعمودية والأبوية، وصور الرقابة المتأتية من هذا المستوى الرسمي أو ذاك. هذا هو المفروض، لكن الواقع أنها ببلداننا العربية تكرس هذه الصيغ السلبية، لعدة أسباب؛ لعل أهمها غياب مناخي الديمقراطية والحرية بمجتمعاتنا، وسيادة الرأي الواحد والأوحد في العائلة، كما في الحزب كما في النقابة كما في الجمعية، كما على مستوى الدولة كإطار وتنظيم سياسي حاضن.
التكنولوجيا عموما لا تعطي إلا بقدر قدرتنا وقابليتنا للعطاء... إننا في تعذر قدرتنا على توجيهها، نرى أنفسنا مجبرين على مجاراتها، تارة تحت الإكراه، وتارة أخرى من باب الموضة الخالصة. وهذا هو مكمن الحلقة المفرغة في تعاملنا مع التكنولوجيات عموما، ومع الشبكات الجديدة على وجه التحديد.