هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ الاحتلال البريطاني فالصهيوني وحتى الثمانينيات، كان الخيار الفلسطيني هو تحرير وطنهم من الاحتلالات. وبغض النظر عن واقعية ومآلات ذلك الخيار، فإنه الأكثر طبيعية، لأن مطلب كل إنسان طبيعي هو أن يعيش حراً في وطنه التاريخي.
ثم بعد خروج المقاومة الفلسطينية من شرق المتوسط وتقويض مشروع الكفاح المسلح، أصبح الخيار المؤلم جداً، هو "السلام"، على أساس القبول بجزء صغير من فلسطين التاريخية كوطن قومي فلسطيني.
عنى "السلام" بمواصفات أوسلو أولاً الاعتراف بشرعية وجود الاحتلال في فلسطين 1948 والتخلي عنها له رسمياً. وبدا هذا التنازل بالإكراه للعالَم الموافِق وكأنه جاء عن طيب خاطر. وعنى قانونياً التخلي عن المطالبات بثلاثة أرباع فلسطين إلى الأبد، وحرمان اللاجئين الفلسطينيين عملياً من حقهم في العودة إلى الوطن وتأبيد منفاهم.
مع ذلك، ضيّقت "عملية أوسلو" و"عملية السلام" مساحة الوطن الفلسطيني الموعود كل يوم، ووسعت المستوطنات، وأخضعت الفلسطينيين للإذلال والاعتقال والموت والحصار، وعكفت على كسر إرادتهم وتجريدهم من آخر سبل للمقاومة.
ونجحت "العملية" في تصوير الفلسطينيين وكأنهم نظير للكيان، يخوضون معه مفاوضات من موقع التكافؤ. بل وأظهرت الفلسطينيين معتدين و"إرهابيين" حتى إذا قاوموا بسكين بائسة آلةَ القتل العسكرية الهائلة التي تحتل الجزء الصغير الذي قبلوه وطناً.
تشبث الفلسطينيون حتى بهذا التصور لحل "الدولتين" الذي يمنحهم أي جزء من فلسطين وبأي شروط، باعتبار أنه "مشروع التحرر الوطني" الجديد الوحيد المتاح بالإمكانيات والشروط الذاتية والدولية والموضوعية. ويوماً بعد يوم، تعرض هذا المشروع المختزل للتقويض المنهجي بمشاركة أطراف متوقعة وغير متوقعة، بما فيها المجتمع الدولي والولايات المتحدة.
والآن، بعد الافتضاح النهائي للانحياز الأميركي الذي لم يكن في حاجة إلى إثبات، بإعلان ترامب الخاص بالقدس، اعترفت قيادة أوسلو الفلسطينية بالمعروف وإعلان أن الوطن الصغير الجديد لا يمكن أن يتحقق بوساطة الأمريكيان. لكنها تتذرع لبقائها بوعد ضئيل هو التعويل على المجتمع الدولي الأوسع، مع معرفة أنه ليست لديه الإرادة ولا الرغبة في فرض أي شيء على كيان الاحتلال.
وفي الحقيقة، يتعلق وجودها الذي ليس في يدها في النهاية على حقيقة مختلفة، هي الدور الوظيفي الذي يؤديه وجودها للكيان، سواء من حيث الأدوار الأمنية، أو المعنوية والأخلاقية باعتبار أنه في حالة تفاوض – وليس احتلالا صريحا- مع "سلطة" تمثل كل الفلسطينيين. وقد اتضحت أهمية هذا الدور، عندما احتجت شخصيات من الكيان على تهديد ترامب بحجب أمواله عن السلطة، لأن ذلك سيعجل انهيارها ويضر تماماً بموقف "إسرائيل".
يأس الفلسطينيين من الكفاح المسلح، ثم "الدولة" على أساس أوسلو، أصبح يدفع عدداً أكبر منهم إلى تأمل خيار مؤلم آخر، "الدولة الواحدة ثنائية القومية" في فلسطين التاريخية. وكانت هذه الفكرة مطروحة منذ بعض الوقت، وأيدها ساسة ومفكرون من الجانبين. ورأى الفلسطينيون وأنصارهم من مؤيدي الفكرة أن هذا الشكل هو الوحيد المتاح مع تعذر تحرير فلسطين بإخراج اليهود من فلسطين وانتزاع السلطة منهم. وبذلك، يكون أفضل طريق هو النضال من أجل انتزاع حق العودة للفلسطينيين، أو عيش الموجودين في الداخل منهم في دولة واحدة تعطي حقوقاً متساوية لكل مواطنيها من العرب واليهود. وسيكون ذلك كفيلاً بتوزيع السلطة بطريقة ديمقراطية تفرضها الديمغرافيا.
وبالنسبة لأنصارها من اليهود، فإنهم رأوا في ذلك الوسيلة الوحيدة للتخلص من الوصمة الأخلاقية والاعوجاج القانوني، والتخلص من التهديد الوجودي الذي يفرضه العداء المر مع الفلسطينيين وعمقهم العربي الشعبي، خاصة أن مغادرة المستعمِرين اليهود وعودتهم إلى أوطانهم ليست خياراً. ورأى هؤلاء أن وضع الكيان المتنفذ والعدواني واللاأخلاقي ليس قابلاً للاستدامة على المدى الطويل، سواء بحسابات الديمغرافيا المحلية والإقليمية، أو باحتمالات تغير الموازين الدولية أو الإقليمية.
يعرف الفلسطينيون أن هذا الخيار يعني شيئين موجعين أيضاً: التخلي عن مشروع التحرر الوطني بالكامل، بل وحتى عن احتمال العيش في وطن صغير سيادي على أرض فلسطين؛ ثم الشروع في نضال طويل وشاق وغير مضمون لتحصيل الحقوق المدنية والسياسية في مجتمع يحكمه الغرباء، والذي شرب أفراده كراهية العرب مع الحليب. وقد أصبح هذا هو التعريف الجديد لمفهوم "المقاومة" الفلسطينية، بالنضال الشعبي، بما فيه من التخلي عن مقاومة تشويش الهوية الوطنية وكل أحلام الحرية.
الغد الأردنية