هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قلق، شك، خصومة..، هي مفردات صلحت لوصف العلاقة بين "حماس" والقاهرة كلّما لاحَ في الأفق مشروع أو مبادرة سياسية لحل الصراع العربي الإسرائيلي؛ فالقاهرة دأبت على الوقوف في مربع التسوية، مقابل وقوف "حماس" في مربع الممانعة رفضاً للتنازل عن الثوابت الوطنية التي تمثل عماد القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من إدراك "حماس" لسلبية الموقف المصري، إلا أنها حافظت على خطاب هادئ وغير مستفز للقاهرة، بحكم الجوار والعلاقات التاريخية، ومراعاةً لديكتاتورية الجغرافيا المتحكمة بغزة تحديداً. لكن ذلك الحرص على عدم استفزاز القاهرة، كان يتكئ في كثير من الأحيان على قوة تتمتع بها "حماس" ذاتياً على صعيد المقاومة والإمكانات، وموضوعياً عبر علاقاتها القوية والمتوازنة مع كل من سوريا، وإيران، وتركيا، وقطر، والسودان.
المتغيّر اليوم هو تطرف أو قسوة الموقف المصري من غزة المحاصرة منذ نحو أحد عشر عاماً، بإغلاق معبر رفح بشكل شبه تام، وتدمير الأنفاق التي كانت تمثل شرياناً لإسعاف المدنيين، والتعامل مع "حماس" كامتداد لحركة الإخوان المسلمين وكمكوّن نشط في تيار الإسلام السياسي الذي تعاديه القاهرة، معطوفاً على تساوق الأخيرة مع السياسات الأمريكية الساعية لتصفية القضية الفلسطينية باعترافها بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. هذا كله يقابله متغير آخر موازٍ حدث عند حركة "حماس"وهو فشلها في إدارة قطاع غزة لأسباب موضوعية في المقام الأول، إضافة إلى محدودية دور المقاومة في المدى المنظور بسبب الحصار والمراوحة في معادلة الردع المتبادل مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبسبب ضعف الأداء في عموم الضفة الغربية. يضاف إلى ذلك تراجع علاقات الحركة السياسية؛ وبمعزل عن مناقشة الأسباب فقد خسرت الحركة سوريا وتحالفها الاستراتيجي مع ما كان يُعرف بمحور المقاومة، مقابل محدودية الدعم التركي والقطري، وجمود العلاقة مع السعودية التي تشهد تحولات سياسية داخلية سريعة.
في ظل هذا الخلل وتلك المتغيرات، تحاول حركة "حماس" جاهدة إحداث خرق في الجدار المصري الصلب، عبر الدبلوماسية الهادئة، والتسليم بوحدانية الدور المصري في ملف المصالحة الوطنية، وبأهمية دورها في ملف تبادل الأسرى مع الاحتلال، والتنسيق معها لحماية أمن الحدود المشتركة بين غزة وسيناء..، علّها تنجح في التخفيف من حجم الضغوط عليها وعلى الشعب الفلسطيني المحاصر.
على أهمية تلك الإجراءات التي تقوم بها الحركة نحو القاهرة، إلا أن الأخيرة تنظر لما هو أبعد من مجرد دور محلّي وطني في القضية الفلسطينية، فالرئيس السيسي كما المؤسسة العسكرية المصرية تعاني أيضاً من مشاكل داخلية كبيرة، وهي معنية بالخروج منها بتثبيت حكمها القائم بدعم صهيوأمريكي مباشر، وهذا لن يتأتى إلا بتقديم استحقاقات سياسية نوعية، في سياق البحث عن حل للصراع العربي الصهيوني، تتناسب مع الرؤية الإسرائيلية المُتغلّبة بحكم سياسة الأمر الواقع.
من هنا فإن القاهرة تحاول جاهدة احتواء الموقف السياسي لحركة "حماس"، تحت سيف الواقع الفلسطيني والعربي المر والمتفاقم، وبسيف العزل لقيادة الحركة السياسية في غزة عن باقي جسمها المتموضع في أكثر من جغرافيا داخل فلسطين وخارجها، إمعاناً في التأكيد على محدودية الخيارات، ووحدانية المخرج المتمثّل في بوابة الدولة المصرية، التي أصبحت الساحة الوحيدة التي يمكن لقيادة حركة "حماس" أن تجتمع في رحابها، وهذا ما حرصت القاهرة على تثبيته في لاوعي الحركة منذ انتخاب إسماعيل هنية رئيساً، حيث لم تتمكن قيادة المكتب السياسي من اللقاء فسيولوجياً إلا مّرتين، كان آخرها قبل أيام، حيث يقيم رئيس الحركة في ضيافة جهاز المخابرات المصرية، منذ التاسع من الشهر الجاري.
ولأن حركة "حماس" تقوم فكرتها ويعتمد برنامجها على مقاومة الاحتلال ومشاريع التسوية السياسية العابثة بالحقوق الوطنية، فمن غير المنطقي أن تطلب القاهرة منها إعلان القبول أو التأييد لصفقة القرن الأمريكية، ففي ذلك إعلان لوفاة الحركة وشطبٌ لمبررات وجودها، ولذلك يُتوقع أن تمارس القاهرة ضغطاً على "حماس" لتحتفظ بحقها في عدم الموافقة على صفقة القرن انسجاماً مع الذات، ولكن دون اعتراض طريقها كما اعترضت طريق أوسلو من قبل بالعمل العسكري أو بالحراك الجماهيري الخشن، بذريعة أن القادم أعظم من قدرة الحركة أو قدرة دول على الاعتراض، لأن واشنطن والرئيس ترمب بما يمثل من اندفاع وتهور هو صاحب المشروع القادم.
وإذا كان البعض يرى في صفقة القرن وصفة غير قابلة للتطبيق أو النجاح بما تحمله من تناقض مع واقع القضية الفلسطينية ومصالح الشعب الفلسطيني، فقد يُقال؛ طالما أنها وُلِدت فاشلة، فلم الاعتراض ودفع الثمن، دعوها تمر لتسقط بفعل الزمن وبأقل الخسائر الممكنة. ومن هنا يصبح مبرر حماية الذات من الاستهداف المباشر هو سيّد الموقف والحكمة المفقودة التي قد تروّج لها القاهرة، بهدف تمرير صفقة القرن، وإرضاءاً لسيّد البيت الأبيض.