هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من جديد، يضرب الإرهاب الأعمى في العاصمة، القاهرة، ويحصد أرواح حوالي عشرة مواطنين، بينهم رجال شرطة وأقباط، وهناك تقارير تتحدث عن أن الإرهابي الذي ارتكب تلك الجريمة حاول الدخول إلى كنيسة "مارمينا" في حلوان، ولو دخلها ربما ارتكب جريمة أوسع.
وتأتي الجريمة الجديدة لتؤكد على أننا نمضي في الطرق الخطأ لمواجهة الإرهاب، وأن التوجه نحو خنق المجتمع وتجريد المواطنين من أساسيات حقوقهم السياسية وحريتهم؛ بدعوى مواجهة الإرهاب والتوسع في حالات الطوارئ.
كل ذلك لم يخفف شيئا من عنفوان الإرهاب، بل إنه يتزايد ويضرب من جديد ويتحدى كل تلك الإجراءات، وهي تجربة كانت أوضح ما تكون في شمال سيناء، حيث حالة الطوارئ والقوة الغاشمة تعمل منذ أربع سنوات، ومع ذلك يستمر الإرهاب ويتوسع وتزداد عملياته وحشية.
حادثة حلوان حملت لنا مشاهد مثيرة، لأن بعض المواطنين نجح
في تصويرها بالكامل تقريبا، وبدا الإرهابي المسلح وهو يتجول في محيط الكنيسة بهدوء
شديد وبدون مضايقة فعلية من أحد، وهو يحمل رشاشه ويطلق منه عدة طلقات عندما يستشعر
الخطر، ووضح أن الذين طاردوه كانوا عددا من أهالي المنطقة، وأحدهم سحب سلاح جندي الحراسة
الذي قتله الجاني وراح يطلق عليه الرصاص، كما أن رصاصة لما أصابت الإرهابي وهو يمشي
في الشارع فأوقعته أرضا، قام أحد المواطنين الآخرين بالانقضاض عليه وشل حركته وتجريده
من سلاحه رغم خطورة هذا الفعل وشجاعة فاعله، قبل أن تأتي الشرطة وتوقفه ثم ينقل إلى
المستشفى، والمشهد يطرح تساؤلات عن حجم التأمين ونوعيته، خاصة وأن تصريحات القيادات
الأمنية التي ملأت مانشتات الصحف قبل تلك الواقعة بيوم واحد كانت تعطي الانطباع بالسيطرة
الكاملة والاستثنائية على محيط الكنائس خاصة ونحن مقبلون على أعياد نهاية العام والأعياد
الدينية للأخوة الأقباط.
أكثر ما أزعجني وأثار قلقي في تعليقات الأمس، من جانب بعض
المسئولين، هو الحديث عن فشل الإرهاب ونجاح الأمن، أو أن العملية تؤكد على أن الإرهاب
يائس، فإذا كان الإرهابي عندما يحصد أرواح عشرة مواطنين وجنود يكون قد فشل، فمتى توصف
عملياته الإجرامية بالنجاح، هل من الضروري أن يقتل عدة مئات وإلا فإنه فشل، وما هو
معيار النجاح الأمني؟ والذي بمقتضاه قام وزير الداخلية بتكريم عدد من ضباط قسم حلوان،
لنجاحهم في التصدي للإرهابي، هذا أمر مقلق جدا، ويعني أن مستوى "الرضا" بالحالة
الأمنية وصل إلى درجات شديدة الانخفاض، وأن القيادة السياسية والأمنية تمهد للتعايش
مع حالة إرهابية ممتدة ومهيمنة على المناخ السياسي والأمني، وأن المطلوب فقط هو تقليل
عدد الضحايا وليس وقف أو إنهاء هذا المسلسل المروع.
البلد أمام خطر حقيقي، ومن الواضح أنه لا توجد خطة علمية
شاملة لمواجهة هذا الخطر، هناك جهود ومحاولات، ومعها تضحيات غالية من دماء مدنيين ورجال
شرطة وجيش، وهي تضحيات لن ينساها الوطن لهم أبدا، لأنهم يفتدونه بتلك الدماء الزكية،
ولكننا مدعوون جميعا لإعادة التفكير في خطط المواجهة، ولن نتعب أو نمل من التذكير بأن
مواجهة خطر الإرهاب الأعمى الجديد لا يمكن أن تنجح بالذراع الأمني والعسكري وحده، هذا
جهد أساس ومطلوب بدون شك، ولكن مواجهة الإرهاب هي تفكيك لعقول، وترويض لنفوس، قبل أي
شيء آخر، وهذا يحتاج إلى جهد علمي وفكري وثقافي وديني وإعلامي وسياسي وتنموي شامل،
مجمل الحالة السياسية في حاجة لمراجعة، الاختناق والتضييق وحصار السياسة والعمل الأهلي
ومصادرة المبادرات الشخصية وتأميم أي نشاط مدني، كل ذلك يخدم الإرهاب ويضعف من قدرات
الدولة على المواجهة.
والخطير أكثر، أن التباطؤ في عملية الإنقاذ وتصحيح المسار
والمعاندة والمكابرة أمام الأخطاء التي يراها العالم كله، سيحول الأزمة من ضربات إرهاب
عابر إلى توطين الإرهاب في بلادنا، وهذا أسوأ ما يكون، وتكلفته باهظة وممتدة على مساحة
زمنية كبيرة.
حفظ الله مصر، وألهم أهلها وقادتها الرشاد، ووقاها شر هذا
الوباء المخرب.
المصريون المصرية