مقالات مختارة

من هو الإرهابي؟ ومن سيدفع ثمن هذه الدماء؟

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

حكايةٌ بسيطة للغاية. مدرسٌ بسيطٌ بدوره يجري على أسرته ووراء لقمة عيشه محاولا قدر المستطاع أن يتفوق على أقرانه في فن التحايل على المعيشة، ذلك الفن وتلك الحرفة التي ورثها السواد الأعظم من المصريين أجيالا وراء أجيال.


وقد تكون مهمته أسهل من غيره وغايته أقرب، فهو يعيش في قرية تابعة لمحافظة بعيدة عن القاهرة، حيث الحياة أقل غلاء بصفة عامة (لن أقول أرخص فتلك كلمة تحمل تجاوزا وظلما وتجميلا للواقع)، لكن انسجاما مع المتنبي حين قال «وكأنا لم يرض فينا بريب الـدّ***هر حتى أعانه من أعانا»، فإن شجارا نشب بين زوجته وزوجة جاره. 


حتى الآن وكل شيء طبيعي وتقليدي، لا يثير العجب ولا يلتفت له أحد، فتسلية الكثيرين وتفريغ إحباطاتهم، يتجلى في الشجار مع الجيران والمحاولات الدؤوب لـ«تطليع ما تبقى من دينهم ورشدهم»؛ لأن هذا هو المتاح والمستطاع في ظل المنعة النسبية للحكومة وعنفها.


بيد أن المغاير والأقل حدوثا هو ما حبا الله أو الظروف به ذلك الجار، فنسيبه، أخو زوجته، أمين شرطة، وقد شعر بأن تطاول ذلك المدرس البائس يطال كرامته الشخصية، فمنظومة الأمن والقمع (أي النظام المصري بصفة عامة) تخطت المنحى الطبقي إلى معاملة من لا ظهر له من الجموع السحيقة للمصريين على كونهم «أغيارا» في استعارة واستنساخ بائس للذهنية العنصرية الصهيونية، لذا وتمشيا مع منظومته القيمية المعطوبة التي تقتضي، بل ربما تلزمه بـ«التوجيب» مع أخته ونسيبه، فقد أخذ على عاتقه تلفيق تهمة لصاحبنا قليل الحظ في الحياة، وكما بات معروفا، فأسهل تهمة هي «الانتماء للجماعة المحظورة» أو تنظيم إرهابي أو تكفيري، حيث زُج به في السجن مدة شهرين ثم عُرض على قاض لم أعد أذكر كم سنة سجن حكم عليه بها، على الرغم من ذكر صديقي العزيز الذي تربطه صلة قرابة قريبة بذلك المدرس- المواطن التعيس، ولعل ذلك يرجع إلى ما يبتلع التفاصيل وعدد السنين من النسيان والبلادة، والتيه وسط ما ينهمر على سمعي ورأسي من حكايات وأحكام سجن وإعدام لا يحصيها إلا الله.


لكن المشكلة الحقيقية في رأيي تبدأ حين يسمع الناس هذه القصة فيكون تعليقهم الوحيد الذي لا يحاول أن يخفي أو يتظاهر بعدم الاكتراث: عادي.


مئات وآلاف يقبعون في السجون، بأحكام أو بغيرها، فلا تسمع من سواد من لا قريب له في الحبس سوى: عادي.


عشراتٌ يقتلون بصفة منتظمة من الجانبين، وقد يعبر البعض عن امتعاضهم من ضحايا الحكومة، لكن حين يتعلق الأمر بـ«الإرهابيين» فهي أيضا: عادي.


لقد بات النمط محفوظا، مكررا حد الملل: يقع حادثٌ إرهابي فيثأر النظام مباشرة بتصفية الإرهابيين المتسببين في الجريمة، ليعود سؤالٌ ليست له إجابة ليلح عليّ: ما دمتم بهذه الحنكة والدراية والقدرة، لم لا تحبطون أبدا هذه العمليات؛ كما أن سرعة رد الفعل تفتح الباب عريضا للتساؤل والتشكيك عن هوية هؤلاء «الإرهابيين» ويغلب الكثيرون الظن بأن هؤلاء محتجزون، تتم التضحية بهم للحفاظ على ماء الوجه والظهور بتلك الصورة من القدرة والمنعة.


وجب هنا التذكير بأن سيناء ليست المكان الوحيد الذي يتساقط فيه «إرهابيون»؛ فالنظام لم ينِ يصفي عشرات هنا وهناك، تارة «إرهابيين» وتارة أخرى «تكفيريين».


السؤال الذي لم يجب عليه أحد: ما هو تعريف الإرهابي وبالتبعية من هو التكفيري؟ وكيف يجزمون بأن من يسقطون في المواجهات «إرهابيون» و«تكفيريون»؟ على حد آخر معلوماتي فالموتى لا يتكلمون، والنظام يعلم ذلك جيدا.


سؤالٌ آخر: هل كل إرهابي تكفيري؟ أم ليس بالضرورة، وبالتالي ألا يجوز أن يكون المرء تكفيريا معتزلا للمجتمع ولا يكون إرهابيا مثلا؟ وهل يختلف النظام كثيرا عن هؤلاء «التكفيريين» حين يحض ويملي على الفقهاء الرسميين (فقهاء السلطان بحسب التسمية الشائعة والصحيحة في أحيان كثيرة) بأن يصفوا أعداءهم بالخوارج، ويفتي البعض بخروجهم من حظيرة الدين؟ ألا يلعب النظام منزلقا أو عامدا على الأرضية نفسها؟ 


كان يتعين على النظام اللجوء لنقد خطابهم وتفكيكه وتوسيع دائرة المشاركة السياسية لمواجهتهم، كما كان يتعين عليه، هو الذي يزعم أنه يحارب الإرهاب ويحمي المواطنين، أن يبادر بتعريف من هو الإرهابي لضبط الكلمة وما يترتب عليها من ملاحقة قانونية وأحكام بالسجن وإعدامات؛ لكنه لا يريد ذلك، فهو يريد أن يترك الكلمة مطاطة، تتسع لتشمل أعداءه، كل من يريد التخلص منهم أو من يسقطون عرضا، الذين يتصادف مرورهم، «الواقعين في منتصف الطريق» بحسب التعبير الدارج.


منذ بضعة أيام نُفذ حكم الإعدام في خمسة عشر «إرهابيا»، لا تسل عن جريمتهم، فالتهم جاهزة وسهلة، وليس أيسر على النظام من إلصاق أي تهمة أو حادث حقيقي بأي أحد، وقد يأتي الدور عليَّ غدا وعليك بعد غد. فالغموض هنا مقصودٌ لذاته، لكي تظل التهمة سيفا وظلا مخيفا معلقا فوق هامات الناس، فهو يوشك أن يخسفها دائما وفي أي لحظة.


لقد نجح النظام تماما في ابتذال العنف والدم وضرب قدسية الحياة البشرية في جملة ما ضرب وقوض من القيم. 


عقب ثورة يناير انطلق يرمم نفسه معتمدا على العنف الواضح البارز. من السذاجة بمكان تصور أن فض رابعة والنهضة كان حدثا عابرا عرضيا، لقد عمد النظام إليه كي يعلن ويؤكد نيته البقاء بأي ثمن، كما يعلن أن قواعد اللعبة القديمة التي تتوقف وقد تجفل أمام العنف الصريح والدماء الغزيرة قد ولت. لقد خطا النظام إلى مرحلة جديدة توائم احتدام الصراع والثورة المضادة. لذا فإن تساؤل البعض ممن لا يزال ضميره وإنسانيته حيين: أمعقولٌ كل هذا العنف وكل تلك الأرواح التي تزهق وكل ذاك الدم المراق؟ أهناك ثمن يساوي حياة إنسان؟ فلا أجد إجابة سوى: أجل، مادام النظام لا يرى في البشر سوى بيادق على رقعة صراعه للبقاء، والحساب الوحيد والقيمة الوحيدة لبقاء أحدها منتصبا أو ساقطا ينبع مما يعود على النظام بالفائدة، فلا تصبح الحياة الإنسانية هي المغزى والفحوى والهدف، وإنما الحساب النهائي لعدد البيادق الساقطة من الجانبين ومن ينتصر ويستطيع تحمل أكبر عدد من الخسائر.


تحضرني في هذا السياق مقولة ماركس التي تقول ما معناه إنه ليس من العجيب أن تسري قوانين السوق على العمل الإنساني حين يصبح سلعة، وإنما العجيب أن يصبح العمل الإنساني سلعة تباع وتشترى من الأساس. نحن هنا لسنا أمام بشر وضحايا، وإنما أرقام في نظر النظام ومنظومة أمنه.
للأسف، أجدني مضطرا هنا للتذكير وتأكيد ما سيؤدي ذلك إليه حتما من التوحش وفقدان الحياة والمجتمع لما تبقى من معانيه وقيمه واحدة عقب الأخرى، بما سيدمر المجتمع ويمهد الطريق للمزيد من التوحش والعنف- تلك هي لعنة الدم التي ستدركنا آجلا أم عاجلا. لن أتحدث عن العواقب الوخيمة على المجال العام وتجريف الحياة السياسية إلخ، فقد تخطينا هذه المرحلة بمسافات شاسعة. 


سؤالٌ أخير: متى ستحل لعنة كل هذه الدماء على النظام؟ وهل سنفلت منها لمجرد أننا سجلنا اعتراضنا عليها؟

 

القدس العربي

0
التعليقات (0)