كتاب عربي 21

هل تعاني من أمراض جنسية؟

طارق أوشن
1300x600
1300x600

قبل الاسترسال، لنعترف أننا كذلك فكلنا أو على الأقل كثير منا يعانون من أمراض "الجنسية العربية" أعراضا وآثارا مباشرة أو جانبية.

 

لم يفوت الصحفي الفرنسي جان بيير ألكباش فرصة حواره مع "رئيس الوزراء اللبناني" سعد الحريري لسؤاله عن مصير رواتب مئتين وأربعين موظفا فرنسيا بشركة سعودي أوجيه المتوقفة منذ سنتين. انتهى السؤال بحصوله على وعد بتسوية وضعيه هؤلاء ولو كانت مشروطة. سعد الحريري الفرنسي أكثر قدرة على المراوغة من نظيريه اللبناني والسعودي. لكنه بالمقابل، لا يمكنه نسيان أفضال الجنسية الفرنسية عليه فقد "حررته" من وضعية "المحتجز" بالسعودية ومعه زوجته وأبناؤه وحظي الجميع بموجبها بـ"شرف" لقاء الرئيس ايمانويل ماكرون.

 

في فيلم (عسل إسود – 2010) للمخرج خالد لمعي، يخرج مصري سيد العربي، المصري المولد والأمريكي الجنسية، عبر بوابة الفندق حيث يقيم بالقاهرة بعد أن استعاد جوازه الأمريكي، بعد معاناته الشديدة من "مصريته" منذ أن وطأت قدماه أرض البلاد. على البوابة كلب حراسة ينبح. يشهر مصري الجواز الأمريكي في وجهه فينقطع نباحه ويستكين.

 

مصري (موجها كلامه لموظفي الأمن): ده طلع بيفهم..

 

قبل واقعة "الاحتجاز" التي تعرض لها سعد الحريري بالسعودية، وهي واقعة ستبقى تفاصيلها طي الكتمان ما دام المعني الأول بالقضية اختار الاحتفاظ بها لنفسه وكأنها تجربة شخصية تعني سعد الحريري وليس رئيس وزراء لبنان، كان الاعتقاد سائدا أن أمراض "الجنسية العربية" لا تصيب إلا حامليها من الفئات الشعبية المقهورة. لكن متغيرات المنطقة وحالة "الجنون" التي تطبع صيرورتها أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن المرض انتشر وصار وباء يتهدد الجميع. أسماء وصفات "المعتقلين" بسجن الريتز كارلتون أكبر موعظة للمتشككين، وبداية موسم انتقال أمراء من صفة الإمارة إلى صفة اللجوء ناقوس إنذار. لم يعد "المواطن" العربي آمنا على نفسه في الداخل قبل الخارج إلا من اهتدى منهم لجنسية بديلة تقيه شر التجاوز في حقه أو الإهمال.

 

سنويا، تصدر مؤسسة غربية مؤشرا لجودة الجنسيات يعتبر مرجعا دوليا لقياس قوة الجنسيات على المستوى العالمي. يخضع المؤشر لمعايير قياس محددة أحدها داخلي يعتمد على معدلات التنمية البشرية والقوة الاقتصادية والاستقرار. أما الثاني فخارجي يعتمد عاملين أساسيين هما حرية حامل الجنسية على السفر وحريته في الاستقرار  ببلد أجنبي. في العام 2016، حلت ثلاث دول عربية في المراتب العشر الأخيرة ولم يكن حال نظيرتها أفضل كثيرا باستثناء دول الخليج التي توسطت الترتيب رغم ملاءتها المالية وثرواتها الضخمة.

 

لأجل ذلك، لا غرابة في أن يتقدم العشرات من العرب بطلبات التخلي عن الجنسية "الأم" لصالح الحصول على جنسية بلدان تشترط الاقتصار على جنسية وحيدة لا "ضرة" لها. ولا غرابة أن يتخلى كثير من الأطر، التي تبدو في ظاهرها مرتاحة ماديا وأدبيا، عن مسارات "نجاح" في الداخل للانطلاق في مغامرات جديدة ببلدان المهجر مقابل توفير الملاذ الآمن للأبناء والعائلة ينتهي بجواز سفر بألوان تقي أصحابها شر السؤال على بوابات الجمارك أو الإهانة في جغرافيا العالم أو المنع من دخول البلدان. دونالد ترامب بدأ مسيرة المنع المباشر، بعد أن ظل الأمر متواطئا عليه بمصالح منح التأشيرات، وأصدر لائحته السباعية وفيها تلألأت أسماء دول عربية ست بالإضافة إلى إيران.

 

الجنسية العربية، ومعها الجواز المعبر عنها، مكانها الطبيعي في الخارج حجز صحي في انتظار الترحيل، لكنها في الداخل تعاني من أمراض مزمنة لا تحفظ لحاملها بين أقرانه حرية ولا كرامة إنسانية.
داخل الطيارة حيث يتواجد مصري سيد العربي، توزع المضيفة نموذج بيانات الدخول.
المضيفة: اتفضل!

 

مسافر: لو سمحت.. أنا عايز الورقة بتاعت الأجانب.. أنا معايا باسبور أمريكي.

 

مصري (موجها كلامه للمسافر): لو سمحت أنا كمان معايا الباسبور الأمريكاني بس أنا مجتش بيه يعني، ومعايا المصري.. فيه مشكلة؟

 

مسافر: لا لا مفيش مشكلة بس كان لازم تيجي بيه.

 

مصري: يعني مفيش مشكلة خالص؟

 

مسافر: لا لا.. بس مجبتوش ليه يعني؟

 

مصري: ليه أجيبه وأتعامل كأني أجنبي وأنا في بلدي؟

 

كان مصري عائدا لزيارة البلد بعد عشرين سنة من الغياب وعاش من المواقف ما أفهمه أن "مصريته" لا تعني شيئا في سلم الإنسانية، وأنه كمصري وعربي مجرد خادم لدى السيد الحقيقي وزبانيته التي لا راد لشرورها غير جوازه الأمريكي.

 

في واقع الحال، جسدت آية حجازي النموذج الأوضح لما يمكن للجنسية الأجنبية أن تحققه لصاحبها. لقد انتقلت آية من زنزانتها، التي اعتقلت بها ثلاث سنوات دون محاكمة أو تهمة، إلى داخل البيت الأبيض للقاء الرئيس دونالد ترامب حيث كان يجلس "رئيسها" المصري بالضبط أياما قبل ذلك اللقاء. هو نفس الفيلم تقريبا عشناه مع سعد الحريري الفرنسي. وقبلها كنا شهودا على حالات محمد سلطان الأمريكي وابراهيم حتاتة الإرلندي ومحمد فهمي الكندي وغيرهم ممن سجنوا "مصريين" وأفرج عنهم، رغم أنف "الشامخ"، أجانب لا تعيبهم غير بعض من السحنة العربية على الوجوه. ألم تخصص الدولة المصرية طائرة خاصة لنقل الأمريكيين المتهمين في قضية التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية وتابعت أبناء البلد على ذمة نفس الاتهامات؟

 

إشكالية الجنسيات العربية وأمراضها المزمنة أنها نتاج أنظمة سياسية ومجتمعية تعتقد أن الجنسية مجرد "مكرمة" من الحكام وليست حقا إنسانيا أصيلا. ففي بلداننا تمنح الجنسية وتنتزع وفق أهواء الحكام المستبدين.

 

من التاريخ، حكاية المناضل اليساري المغربي اليهودي ابراهام السرفاتي الذي خرج من سجنه الذي قضى فيه سبع عشرة سنة كاملة مرحلا إلى فرنسا بعد أن اعتبرته الدولة المغربية مواطنا "برازيليا". سنوات بعد ذلك، عاد الرجل إلى المغرب واستقبله ممثل للقصر الملكي بالمطار مغربيا "معززا مكرما". وفي مصر، الحاضر، قضايا في المحاكم رفعها محامون لسحب الجنسية من معارضي النظام الانقلابي رفض القضاء الإداري، قبل أيام، التجاوب معها بخصوص آية حجازي وأيمن نور وهشام عبدالله ومحاسبين اثنين معارين من الجهاز المركزي للحسابات إلى القوات المسلحة القطرية. يأتي هذا في ظل موافقة مجلس الوزراء على مشروع قانون يخص أحكام إسقاط الجنسية الذي اًعتبِر وقتها استهدافا لمعارضي النظام. في المقابل، ترويج لمنح الأجانب الجنسية مقابل ودائع في البنوك. فُتِح المزاد ولا من مشتر فالبضاعة بائرة نخرتها الديدان. أما في دول الخليج التي تتوسط مؤشر جودة الجنسيات العالمي، فقد صار منح الجنسيات أو سحبها ساحة حرب إعلامية تلعب بنار القبائل في أزمة لم تترك عود كبريت إلا وأشعلته.

 

من ليبيا ما بعد إسقاط القذافي، صدرت صرخات "عبيد الأزمنة المعاصرة" تعري عبيدا تلذذوا باستعباد "عبيد" غادروا بلدانهم بحثا عن حرية وكرامة مفقودتين. كان نصيب المغرب شريط استغاثة من أكثر من مئتي "مواطن" اشتكوا إهمالهم في وقت ترحل فيه الدول الأخرى مواطنيها. ليس المغرب مستعجلا في أمرهم فالاحتياطات الأمنية مقدمة على ما عداها من الاعتبارات.

 

داخل الطائرة المحلقة في الأجواء يجلس مصري سيد العربي بعد أن قرر العودة إلى أمريكا ومغادرة مصر نهائيا على إثر تجربته السيئة فيها. ينادي المضيفة فجأة متصنعا الألم.

 

المضيفة: حضرتك كويس؟

 

مصري: كويس ايه؟ انت شايفاني بلعب؟ أنا تعبان..

 

المضيفة: فيه دوا معين بتاخذه؟

 

مصري: لا.. محصليش كده قبل كده.

 

المضيفة: لحظة واحدة!

 

مصري: أوكي.. بسرعة بسرعة..

 

المضيفة (على الهاتف): كابتن! فيه واحد عنده أزمة وشكله تعبان أوي..

 

كابتن الطائرة: وهو جنسيته ايه؟

 

مصري: شكله مصري..

 

كابتن الطائرة: مصري؟ احنا في الجو.. اديله أي مسكن وخلاص..

 

المضيفة: حضرتك لسه تعبان؟ ثواني حنشوف دكتور..

 

مصري: لسه حتشوفو دكتور.. استني.. عايز هوا .. ح هوي بالباسبور الأمريكي بتاعي.. (وهو يبرز الجواز لها) ده بيجيب هوا حلو أوي..

 

المضيفة: ثانية واحدة.. (تعود إلى الهاتف مجددا) الحق يا كابتن ده طلع أمريكاني..

 

صوت في الطائرة: حضرات السادة الركاب، نرجو من سيادتكم ربط الأحزمة.. حيث أننا سنضطر للعودة إلى .......

 

تلك أخلاق العبيد...

2
التعليقات (2)
مصري
الخميس، 30-11-2017 09:04 م
مع الأسف وفي عهد العسكر عبيد الشيطان هذة هي الحقيقة بالضبط ، البلد ليست بلدنا ونحن عبيد و العسكر العبيد هم الأسياد مثلما كان الوضع أيام المماليك .