قضايا وآراء

المصالحة: بؤس العقل السياسي الفلسطيني

زياد ابحيص
1300x600
1300x600

منذ بدء الانقسام الحالي صيف عام 2007 ونحن نشهد أداءً وعظياً حول ضرورة "إنهاء الانقسام" باعتباره الهدف المركزي الذي يجب السعي إليه، ونشهد في الوقت عينه تعليق كل تراجع وأزمة على شماعة هذا الانقسام، فتقدُّمُ الاستيطان يُعلق على الانقسام، وإهمالُنا وبؤس أدائنا في خوض معركة حماية القدس إلى جانب أهلها الصامدين فيها يُعلق على الانقسام، وتطبيع الجوار وتراجع مكانة القضية الفلسطينية وكل ما حل بنا من كوارث يُعلق على الانقسام. في الحقيقة لقد بات الانقسام مهرباً مريحاً ومناسباً يمكن لنخبة أوسلو أن تهرب إليه من مواجهة استحقاق بؤس خياراتها التي أسست لمعظم تراجعات قضيتنا حتى اليوم.


والواقع أن الانقسام الفلسطيني قديم وعميق، منذ تجربة "فصائل السلام" التي ضربت فصائل الثورة الفلسطينية الكبرى، إلى التباين الواسع داخل حركة فتح وسائر فصائل منظمة التحرير إثر تبني برنامج النقاط العشر، وصولاً إلى تنكيل سلطة أوسلو بمقاومي حماس والجهاد قبل الانتفاضة الثانية، وحتى الانقسام بين محمود عباس ومحمد دحلان والنخبة المنتفعة من أوسلو من جهة مع الراحل ياسر عرفات وهاني الحسن وغازي الحسيني وتيار كتائب شهداء الأقصى داخل فتح من الجهة الأخرى انتهاءً بقتل عرفات وتصفية كتائب شهداء الأقصى.

 

الانقسام الفلسطيني قديم وعميق بين نهجين: نهج نخبة تضع نصب عينيها أولوية وجودها ومكاسبها فتميل للتصالح مع المستعمر ولعب دور الوسيط الحاكم بالنيابة عنه، ونهج نخبة أخرى تتطلع إلى تحقيق طموحات شعبها في التحرر من خلال مواجهة المحتل بكل أنواع القوة، وبطبيعة الحال تشكل النخبة الثانية خطراً على وجود ومكاسب النخبة الأولى وهذا ما يدفع الأولى لمواجهتها وتصفيتها.


تجارب الشعوب والثورات المختلفة من الجزائر إلى جنوب إفريقيا وحتى فيتنام تقول بأن الطريق إلى مواجهة الاستعمار يمرّ بالضرورة عبر توحد كتلة كبيرة من القوى على استراتيجية مواجهة المحتل، وهذا ما تقوله تجربة التحرير الصلاحي للقدس كذلك، لكن هذا الاستنتاج تم تحويله إلى قالب خشبي على يد نخبة "حافظة مش فاهمة" باعتبار أن التحرر يمر بوحدة ميكانيكية لكل أبناء الشعب، متعامين عن أن كل تجارب التحرر –بما فيها التجربة التاريخية الفلسطينية- كانت مصحوبة بالضرورة بصراعٍ داخلي بين النخبة الوسيطة للاستعمار والنخبة المقاوِمة، وأن التحرر لم يتحقق إلا بعد حسم الخيار والإرادة خلف نهجٍ واحد هو نهج المواجهة. الوحدة المطلوبة هي الوحدة على قاعدة المقاومة، أما الجمع بين الإرادتين داخل جسمٍ واحد فليس وحدة بل تحويرٌ للانقسام من طورٍ إلى طور، ربما يكون أخطر على مسار التحرر من الانقسام.


الانقسام الحالي –الذي يُصوّر على أنه انقسام بين حماس وفتح- فيه معضلتان: الأولى أنه لم يتم في ظل مواجهة مع الاحتلال الصهيوني بل على أرضية المشاركة في البنية التي وافق الاستعمار على إنشائها لاستقطاب وتوسيع إطار النخبة الوسيطة التي تحكم تحت سقفه، فبات من الممكن تصويرها على أنها خلاف صلاحيات بين حزبين، لا صراع إراداتٍ بين منهجين.

 

المعضلة الثانية مبنية على الأولى، فرغم أن معظم أبناء فتح ومؤيديها هم مع المقاومة من ناحية المنهج بدليل انخراطهم السابق بسنواتٍ قليلة في انتفاضة الأقصى، وصمتِهم على تصفية حماس لقوات أمن السلطة في غزة لأنها لا تمثل خيارهم ونهجهم، إلا أن الخلاف في إطار السلطة سمح لقيادة فتح أن تصوّر الانقسام على أساس حزبي باعتباره تهديداً وجودياً لفتح كحركة، فاستعادت بذلك الشرعية والالتفاف حولها رغم افتراق معظم جمهورها معها في المنهج والوسائل، فباتت مستفيدةً من الانقسام على طريقتها. لقد مُوِّه الانقسام الحالي بغطائين: صراع السلطة، وصراع الأحزاب، وبات من السهل بالتالي لنخبة أوسلو أن تمرر أعمالاً كارثية ومدمرة لشعبها وطموحاته كالتنسيق الأمني والإجراءات العقابية بحق غزة تحت هذين الستارين.

 

في ظروفٍ غير هذه الظروف لن يكون صعباً أن نصِف هذه الأعمال بالخيانة لأنها تمتلك كامل الشروط الموضوعية لهذا التصنيف، لكنها تحت ستار التمويه الحالي باتت وجهة نظر، فالانقسام أُخرج عن حقيقته من انقسام نهج وإرادات إلى انقسام سلطة وأحزاب.


في عام 2008، وبعد شهورٍ من الانقسام طُرحت هذه الفكرة في مؤتمرٍ في بيروت لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، باعتبار المصالحة مستحيلة، وأن الضرورة تحتم البحث في خيارٍ آخر غير محاولة إنهاء الانقسام لأن إنهاءه لن يكون إلا بفرض أحد الطرفين إرادته على الآخر، فتسابقت نخبة المثقفين والسياسيين –وبينهم أمناءَ عامون لفصائل- لإدانة هذا الرأي ومُقدّمَه، وتسابقوا إلى الوعظ الصوري حول الوحدة الميكانيكية. اليوم مرّت 10 سنوات ولم يتحقق ما وعظوا به. فهمُ سلوكهم هذا وتفسيره ليس صعباً، فنحن أمام نخبة مشغولة بالصورة أكثر من الفعالية، فهي تقول "ما ينبغي أن يقال" بغض النظر عن فعاليته؛ هي نخبة بحكم الموقع وليس بحكم الدور الذي تلعبه.


تجربة المصالحة الحالية أعادت التأكيد أننا أمام صراع إرادات، وربما بات تخطّي طبقات "التمويه" ممكناً الآن: فنخبة أوسلو التي تحكم تحت سقف الاستعمار لا ترى في المصالحة إلا فرصةً لفرض إرادتها على النخبة المقاوِمة المناوئة لها، فأخرجت وستُخرج كل ما في جعبتها من ألاعيب الشعوذة السياسية: من السلاح الواحد إلى التمكين إلى عودة الموظفين المستنكفين، فهي لا تتطلع إلا إلى كسر النخبة المقاوِمة والاستفراد بالمشهد من جديد بأي ثمن، أما نخبة حماس في غزة فتتجه إلى المصالحة لتخفيف الخناق عن نفسها، وتجاوز المرحلة. ليست هناك مساحة مشتركة حتى الآن بين الخيارين، وفي ظل ميزان قوىً كهذا لا شيء سيقنع نخبة أوسلو أن تتراجع عن مسعاها لكسر نخبة المقاومة.

انطلاقاً من هذا التشخيص فإن أمام نخبة المقاومة مجتمعة في حماس والجهاد وتيار المقاومة والتحرير في فتح مخرجا مجديا هو أن يصلوا إلى إعلانٍ مشترك –يؤكد الوحدة على أساس إستراتيجية المقاومة- يقولون فيه بأن التجربة الحالية للمصالحة بعد عشر سنواتٍ من المحاولة تجعلنا نعتبر أن إنهاء الانقسام بات وراء ظهورنا، وأنه ليس هدفاً منشوداً، وأننا نتطلع إلى انتخاب سلطة مدنية غير فصائلية لغزة بحراسة المقاومة، بينما ستتفرغ قوى المقاومة لتعزيز قوتها وموقعها، وأن أعلى ما نتطلع إليه وندعو إليه نخبة أوسلو هو إدارة الانقسام بشكلٍ يقلل خسائر الجميع، فالعيش تحت سقف الانقسام أفضل بكثير من مصالحة تنتهي بالمواجهة أو باستسلام إرادة المقاومة.

0
التعليقات (0)