فتحت تصريحات
ولي العهد السعودي،
محمد بن سلمان التي أعلن فيها عودة
السعودية إلى الإسلام الوسطي المعتدل، والتوجه الفوري لتدمير المتطرفين، أبواب التحليل على قراءات مختلفة ومتباينة.
ففي الوقت الذي رأى فيه مؤيدو تصريحات ولي العهد أنها تستهدف بشكل مباشر تيار الصحوة ورموزه من الصحويين، أكدَّ منتقدو تلك التصريحات انطواءها على توجهات مباشرة للانعتاق من
الوهابية باعتبارها محضنا لتفريخ الأفكار المتطرفة والمتشددة بحسب التصنيف الأمريكي لها.
وانتقد مؤرخون وباحثون في التاريخ رواية ولي العهد السعودي للتاريخ الديني في السعودية، بإرجاعه الغلو والتطرف إلى ظاهرة الصحوة التي كانت لها اهتماماتها وانشغالاتها المختلفة عما يقال في التحذير من الغلو والتشدد والتطرف، والتي انصبت في مجملها على موضوعات تتعلق بالشرعية السياسية، وإدارة الحكم، وعدم احتكار الثروة والسلطة.
الدين الوسطي
ووفقا للباحث الكويتي المهتم بالدراسات التاريخية والفكرية، مهنا حمد المهنا، فإن "السعودية لم يكن فيها منذ ثلاثة قرون دين وسطي منفتح يقبل بالآخر، ويتسامح معه، فما بالك بما يقال عما كانت عليه قبل ثلاثين سنة تحديدا؟".
وأشار المهنا في تصريح لـ"
عربي21" أن السعودية بعد نمو ظاهرة الصحوة الإسلامية وتوسع دوائر انتشارها منذ عام 1970، "ركبت الموجة من خلال تضخيم المؤسسة الدينية السعودية الرسمية الموالية لها، وإضفاء القداسة عليها، وتعظيم رموزها الكبار كابن باز، وابن العثيمين، وجعلهم مرجعية عقائدية وفقهية للعالم الإسلامي".
وذكر المهنا أن "السعودية قامت ببناء وإنشاء مراكز إسلامية في أوروبا وأمريكا وأستراليا لنشر الفكر الوهابي، ومحاربة التصوف والمذهبية، مع سماحها لدعاة الصحوة بالانتشار في مساجدها ووسائل إعلامها، وكانت وزارة التربية والتعليم السعودية تقرر كتب المودودي وسيد قطب في مناهجها الدراسية".
ولفت المهنا إلى أن السعودية حينما سمحت للسلطة الدينية الممثلة بهيئة كبار العلماء مشاركتها في النفوذ، وإن كانت في طبيعة عملها تابعة لها في كل فتاويها، فإنها بذلك منحت الدين، خاصة المنهج الوهابي، مكانة ونفوذا لمشاركة النظام في الرأي والتوجيه، وهو ما باتت تستشعر خطورته، لذا فإنها تسعى لتقزيم المؤسسة الدينية، الرسمية والشعبية على حد سواء.
ورجح المهنا أن تلك التوجهات تأتي لتتواءم مع ما تمر به المنطقة حاليا، وما هو قادم في قابل الأيام من إعادة تشكيل خرائط المنطقة سياسيا، خاصة ما يتعلق بإقامة العلاقات مع دولة الاحتلال في فلسطين، الأمر الذي يتطلب إعادة تشكيل نسق التدين بما يتوافق مع المصالح الأمريكية، وهو ما يستوجب محاربة أي جماعة أو فكرة أو تيار تضمر معاداة الغرب والتغريب".
عوائق التقدم
من جهته، وردا على أسئلة "
عربي21" بشأن تصريحات ولي العهد السعودي، أحالنا أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة على ما كتبه حولها، وما فهمه منها.
وأوضح السعيدي أنه لم يفهم من تصريحات ولي العهد ـ خلافا لما فهمه البعض منها ـ "أنه يرى أن الأيدلوجيا قد تكون عائقا أمام مشاريع التنمية والتقدم العلمي والتقني".
وقدم السعيدي قراءته لتصريحات بن سلمان بأنها "تنصب على ما يتعلق بالأفكار الحركية والثورية التكفيرية المنتسبة إلى جماعات سياسية ذات صبغة دينية كجماعة الإخوان التي خرج من تحت عباءتها، وبتأثير فكرها قادة الإرهاب والتطرف في العالم الإسلامي" بحسب رؤيته.
وأضاف: "فهذا الفكر لا شك أنه نشط فيما بعد عام 79، بدءا بحركة جهيمان وانتهاء بالمنتمين أو المتأثرين بأطروحات القاعدة وتنظيم الدولة، وهذا الجانب من جانبي ما يسمى زمن الصحوة تصدى له أهل العلم والفضل والبحث العلمي في بلادنا".
وأثنى السعيدي على ما قامت به المؤسسات السعودية الأمنية والدعوية والتربوية والسياسية والدبلوماسية لمحاربة هذا الفكر، واصفا المؤلفات والتسجيلات التي أصدرها علماء السعودية وطلبة العلم بأنها تفوق في عددها وتأثيرها وانتشارها جميع ما صدر في دول العالم بأسره.
وامتدح السعيدي تصريحات ولي العهد المستهدفة لهذا الفكر وحملته، مؤكدا أن حديث الأمير "لم يجانبه الصواب قيد أنملة، وكل العقلاء من علماء وطلاب علم وعاملين في النشاط الدعوي هم مع ما قاله حرفا بحرف".
واستبعد السعيدي أن يكون الأمير قد قصد في تصريحاته "ما قامت به السعودية من مشاريع علمية وتوعوية وتربوية، أواخر سبعينيات القرن الماضي، في سياق مواجهتها للمد القومي البعثي الناصري الماركسي، وهو ما أدى إلى عودة الشباب إلى ما كان عليه منذ تأسيس الدولة السعودية"، واصفا ذلك بأنه "ليس شيئا جديدا أو مستنكرا أو خارجا عن إسلامنا ووسطيتنا".
تصريحات دقيقة
في السياق ذاته، وصف الباحث اليمني، عادل الشعيبي ما جاء في حديث ولي العهد بأنه "كان دقيقا وواقعيا"، معللا ذلك بقوله "فالحركات الدينية تتعرض بمرور الزمن، وبما يحمله من تحولات لبعض المتغيرات، والتجاوز للخط الفكري القديم وهو ما يترجمه توجه الفرد وسلوكه في تطبيق المعتقدات والتصورات الدينية".
وأضاف: "فتصريحات ولي العهد كانت موجهة لهذه النقطة بالتحديد، أي الفهم المتطرف لطبيعة الفكر الديني الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والواقع يشهد له، فخلال المدة المشار إليها ظهرت توجهات بالغة التطرف تحمل مضامينها عناوين وشعارات الدعوة الوهابية، لكنها سلكت طريقا آخر مباينا لعامة علماء الدعوة في السعودية وخارجها".
وتابع الشعيبي حديثه لـ"
عربي21": "كما نتج عنه ظهور بعض التنظيمات الجهادية مثل القاعدة وتنظيم الدولة وغير ذلك" مفرقا بينها وبين التيار الصحوي الذي كانت مشكلته مع النظام السعودي وغيره مشكلة سياسية تتعلق بطبيعة الحكم وما إلى ذلك من قضايا وموضوعات" على حد قوله.
وأوضح الشعيبي أن "توجه النظام السعودي للتخفف من هيمنة نسق التدين الوهابي ليس جديدا، فقد بدأت بوادره في عهد الملك المؤسس".
وأوضح الشعيبي أن "صانع القرار السعودي منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، وجد نفسه بين خيارين إما التمسك بالأيدلوجيا حتى ولو أدى ذلك إلى سقوط الدولة، وإما التخلي عن الأيدلوجيا ـ ولو تدريجيا ـ للحفاظ على بقاء الدولة وتماسكها، وهذا ما قرره الملك المؤسس، وسار عليه أبناؤه من بعده".
واستبعد الشعيبي أن يترك تخلي السعودية عن الوهابية آثارا سلبية عليها، مرجحا أن يكون العكس هو الصحيح، لعدة اعتبارات، من أبرزها وأهمها طبيعة المجتمع السعودي المعاصر، والذي ضاق ذرعا بهذا الفكر، إضافة إلى تلك الدراسات والتقارير التي تربط بشكل مباشر بين التطرف والغلو الديني من جهة وبين الوهابية من جهة أخرى كحاضنة للتطرف والإرهاب".