هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إن أهم الأهداف التي يسعى لتحقيقها الإسلام أن تصبغ شخصية المسلم بالمحبة، وصولا لما هو أبعد من ذلك، بأن يشعر المسلم بالأُنس بالكون الذي يعيش فيه، وبمن فيه، وما فيه، سواء كان كائنا حيا، أو جمادا، لأن الإسلام لا يتبنى ما تنادي به بعض الفلسفات والرؤى حول الكون والطبيعة، من حتمية الصراع بين الإنسان والطبيعة، أو مخلوقاتها.
وفي تفاصيل النصوص الإسلامية ما لا يتسع له المقام لذكره، وبعض الإشارات تدل على الأمر، فالكون لم يخلقه الله عز وجل ليكون في صراع مع الخليفة في الأرض، بل جعل الله غاية خلق الإنسان ثلاثة أمور كما يقول الراغب الأصفهاني، وهي: الخلافة، (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة: 30، والعبادة، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات: 56، والعمارة، (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود: 61، فالقرآن يبين أننا خلقنا لنكون خلفاء في الأرض، ولنعمرها، ونملأها بالعمران والخير، فالعمران مقصد إسلامي، ولن يتحقق بالعداء مع الكون والطبيعة، بل بحبها وحب العيش فيها، وحب تنميتها، وحب الكائنات التي تحيا عليها.
وليس أدل على هذا من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم في الأُنس بالكون، فنجد في كتب السيرة أنه ما من شيء من حيوان أو جماد يمتلكه صلى الله عليه وسلم إلا وضع له اسما، فالناقة التي يركبها اسمها: (القصواء)، ومن أنسه بها ووفائه لها، وقد أنقذت امرأة مسلمة من الأعداء، فنذرت المرأة إن نجت أن تذبحها، ورفض النبي صلى الله عليه وسلم الوفاء بنذرها، فليس جزاء الناقة التي أنقذت حياتها وعرضها أن تذبح.
وللإنصاف هذه ثقافة نابعة من المجتمع العربي ولغته، ولكن الإسلام أقرها ونماها وزاد عليها أنها عبادة وأجر يؤجر من يفعله، فالعرب تضع للأسد أسماء كثيرة، وللسيف كذلك، ولغيرها من الكائنات الحية والجمادات. ولا غرو فالإسلام في مجال الأخلاق جاء ليبني على ما سبق لا ليهدمه، إلا ما تعارض مع الشرع، يقول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" أي الإتمام لا المحو.
وبلغ أُنسه صلى الله عليه وسلم بالكون، حتى بالجمادات، فمن المعلوم أن العرب تربت على أن المكان الذي يرتبط في أذهانهم بحادث شؤم، يتشاءمون منه، وقد هزم المسلمون على جبل أُحد، واستشهد في يوم موقعته سبعون من الصحابة، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على جبل أحد وهو عائد من إحدى سفراته، فسأل صحابته – وهو يعلم – أي جبل هذا؟ فقالوا: جبل أُحد، فقال صلى الله عليه وسلم: أُحد جبل يحبنا ونحبه. يالروعة التعبير، لقد جعل من الجبل الجماد كائنا يحس بالمسلم، ويحس به المسلم، ولا يبادله إلا حبا بحب، لينزع من النفس البشرية شؤم المكان، وبغض المكان، بل المسلم يتناسى كل هذا ولا يتذكر للمكان إلا الحب والأنس والوفاء.
ويتضح قمة هذا الأنس في الإسلام، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذكرا لكل تعامل يتعامله المسلم مع الكون وأحداثه، فعند ركوب الدابة ذِكْر، وعند دخول البيت والخروج منه ذِكْر، وعند دخول الخلاء والخروج منه ذكر، والنظر في المرآة، ولبس الثياب، وركوب البحر، وصعود الجبال، وعند نزول المطر، وعند سماع الرعد ورؤية البرق، كل ما مر له ذِكْرٌ، وهي نصوص كلها تدل بجلاء على عمق العلاقة الوجدانية وهي (الأُنس) بين المسلم والكون بكل محتوياته.
وظهر أثر هذا التشريع الإسلامي في المجتمع النبوي، والحضارة الإسلامية فيما بعد، في تفاصيل كثيرة، وقد لاحظ ذلك المنصفون من المستشرقين، فترى في بناء المساجد عند تصميمها يوضع مكان للطير على سطحه وأطراف السطح وعلى أسواره، بينما على أسوار الكنائس يوضع أسلاك أو زجاج مدبب بحيث لا يقف عليها الطائر. ويتضح كذلك من كثرة المؤلفات عن الحيوان، كالحيوان للجاحظ، وحياة الحيوان الكبرى لكمال الدين الدميري، ومؤلفات أخرى في قائمة طويلة، لا يتسع المقام لتفصيلها، فإذا كانت تلك نظرة الإسلام لما يجب أن يكون عليه المسلم من أُنسه بالكون وما فيه، فمن باب أولى أن تكون مطالبته بالأُنس بالبشر من بني جنسه، وهو ما فصله القرآن الكريم في آيات متعددة لا حصر لها.