هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يعد المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني حدثا مثيرا للاهتمام من وجهة نظر تركيا، لما أظهره من توحد الشعب الصيني خلف الرئيس شي جين بينغ وجهوده الرامية لإحلال نظام عالمي جديد من شأنه أن يعكس على نحو متزايد أولويات الصين الجيوسياسية ورؤيتها العالمية.
فقد أظهر المؤتمر الـ19 للحزب الشيوعي الصيني، المنعقد من 18 إلى 24 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تعزيز جين بينغ، سلطته عبر تكريس اسمه واثنين من مشاريعه الرئيسية بدستور الحزب.
في مرتبة "ماو تسي تونغ"
أدرج جين بينغ في دستور بلاده فكرته حول الاشتراكية، وأرفقها بخصائص صينية في العصر الجديد، وسياسات عامة من شأنها مكافحة الفساد، علاوة على مبادرة "حزام واحد- طريق واحد" ( طريق الحرير الصيني).
ففي 2013، كشفت الصين عن استراتيجيتين جديدتين للتجارة الخارجية وهما "حزام طريق الحرير الاقتصادي"، و"طريق الحرير البحري"، وهما طريقان كانا يستخدمان قديما لحركة التجارة.
وتهدف المبادرة الصينية (الحزام والطريق)، لضم الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري والبحري للقرن الـ21، في سبيل بناء شبكة للتجارة والبنية التحتية تربط آسيا وأوروبا وإفريقيا.
وبحسب محللين، فإن جين بينغ ارتقى الآن إلى منصب مؤسس الصين "ماو تسي تونغ"، ومهندس الانفتاح الاقتصادي الصيني "دنغ شياو بينغ"، وأصبح اسمه في الدستور الصيني وهو لا يزال على قيد الحياة.
ومع زيادة قوة جين بينغ، من المنتظر أن تتبنى الصين سياسة خارجية أكثر ثقة وحزما، ومن المرجح أن تفسح السياسة القديمة القائمة على شعار "إعطاء وقتها وإخفاء قدراتها" الطريق أمام سياسة خارجية أكثر جرأة، تهدف إلى تسريع رحلة الصين نحو القوة العالمية.
وخلال كلمة مطولة لجين بينغ، في 18 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أشار الرئيس الصيني مرارا إلى هوية الصين كقوة عظمى، وشدد على أن أولويته ستكون جعل حلم الصين حقيقة ملموسة.
وأكد أن أيام إهانة الصين قد ولت، وأنه حان الوقت لإحياء الصين باعتبارها قوة حضارية عالمية.
تقارب صيني تركي
وفي السنوات الأخيرة، ارتفع نسق تبادل الزيارات بين مسؤولين صينيين وأتراك.
وفي أيار/ مايو الماضي، حضر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اجتماع قمة (حزام واحد- طريق واحد) المنعقد بالصين.
وزار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الصين عشية اجتماع قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) المنعقدة بالعاصمة الفلبينية "مانيلا" مطلع أغسطس/ آب الماضي.
ويرى القادة الأتراك أن تحسين العلاقات مع الصين مهمّ في سياق جهود تركيا الرامية لخلق قوة مناهضة للقوى الغربية.
فيما يعتبر القادة الصينيون تركيا مركز نفوذ في منطقة الشرق الأوسط الكبرى، وبلدا يبدو أنه يحتل موقعًا محوريًا في مشروع طريق الحرير الجديد.
ويؤكد المسؤولون الأتراك أن مبادرة "الممر الأوسط" التركية تتوافق تمامًا مع مشروع طريق الحرير الصيني، فكلاهما يهدف إلى إحياء طريق الحرير القديم.
وتقع تركيا على طريق الصين للوصول إلى الأسواق الأوروبية، ولذلك فإن من المنتظر أن تحصل على منافع كبيرة من اعتبارها مركزا محوريا ضمن سلاسل التوريد العالمية الرابطة بين الأسواق الصينية والأوروبية.
التجارة الثنائية
وشهدت التجارة الثنائية بين تركيا والصين على مدار العقد الماضي، تحسّنًا. وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 30 مليار دولار، ما جعل الصين ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا بعد ألمانيا، فيما تعد الصين أكبر مورد تجاري لتركيا.
وعموما، ارتفعت أيضا مستويات التبادل التجاري بين تركيا ودول شرق آسيا طوال السنوات الأخيرة الماضية، حيث تجري تركيا نحو 20 بالمائة من تجارتها الدولية مع دول في منطقتي شرق وجنوب شرق آسيا.
ورغم أن التبادل التجاري يصب في مصلحة الصين بشكل أكبر في ظل عجز الميزان التجاري التركي بحوالي 25 مليار دولار، يعتقد مسؤولون أتراك أن هذه الفجوة يمكن سدها من خلال زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في الاقتصاد التركي، خصوصا في مجالات الطاقة والنقل والاتصالات والبنية التحتية والخدمات اللوجستية، وغيرها.
غير أنه، ومقارنة بحجم الاستثمار الأجنبي المباشر للدول الغربية في الاقتصاد التركي، تحتاج الصين لقطع طريق طويل.
وحتى الآن، يصل الاستثمار الصيني في الاقتصاد التركي إلى مليار دولار تقريبا، لكن العدد المتزايد من السياح الصينيين الوافدين على تركيا قد يساعد أيضًا على تضييق هذه الفجوة.
السياحة
ونظرا للإمكانيات البشرية للصين، وباعتبار أن السياح الصينيين ينفقون بشكل أكبر من سيّاح الدول الأخرى، فإن تركيا قادرة على جني مزايا اقتصادية هائلة، إذا تجاوز عدد السياح الصينيين الوافدين عليها عتبة المليون سائح، مقارنة بنحو 300 ألف شخص زاروا تركيا العام الجاري.
ويفضل السياح الصينيون، على عكس العديد من السياح الأوروبيين والروس والغربيين الوافدين على تركيا، قضاء بعض الوقت في المواقع التاريخية والثقافية وشراء السلع الفاخرة.
العنصر الاستراتيجي
ويشير خبراء إلى وجود عنصر آخر قادر على خلق تقارب أسرع بين تركيا والصين، وهو العنصر الاستراتيجي، لاسيما وأن جهود أنقرة لشراء صواريخ بعيدة المدى للدفاع الجوي من الصين، ومشاركتها في منظمة شانغهاى للتعاون، معروفة جيدا.
ورغم أن صناع القرار الأتراك قرروا مؤخرا، شراء مثل هذه الصواريخ من روسيا (ومنها صواريخ إس- 400)، فإن الصين لا تزال تبدو مصدرا جذابا بهذا الشأن، بسبب انخفاض سعر صادراتها العسكرية، فضلا عن استعدادها لتبادل خبراتها التكنولوجيا مع المشترين.
وتسعى تركيا للوصول إلى تفاهم متبادل في ما يتعلق بوضع المسلمين الأويغور (مسلمو شمال غرب الصين)، ويعتبر قرارها بزيادة تعاونها مع الصين في مجال مكافحة الإرهاب سابقة من نوعها.
قواسم مشتركة
ويستند التقارب التركي الصيني على عدد من القواسم المشتركة، أوّلها، أن المجتمع في البلدين يتبنّى نهجا جماعيا للأخلاق، ويعتبران الدولة مؤسسة في قلب الحياة السياسية.
وثانيا، يبدي البلدان قدرا كبيرا من الحساسية تجاه السيادة، كما أنهما يبديان درجة عالية من التشكك في العمليات الإنسانية الدولية التي تتم تحت مسمى "حقوق الإنسان العالمية".
ثالثا، يبدي البلدان حساسية كبيرة للغاية إزاء الحفاظ على وحدة الأراضي والتماسك الاجتماعي، ويعتقدان أن العلاقات الدولية ينبغي أن تقوم على حرمة مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
رابعا، يشترك البلدان في الفكرة القائلة بأن النظام العالمي الحالي ليس عادلا ومنصفا، ومن ثم فإنه يحتاج إلى إصلاح.
فالعديد من المنصات العالمية والمؤسسات الدولية التي ظهرت إلى الوجود في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم تعد شرعية، لأنها لا تعكس ديناميكيات القوى الصاعدة في عالم اليوم.
خامسا، يبدو أن البلدين يضعان احتياجاتهما الإنمائية كأولوية قصوى.
ولن يكون من الخطأ القول بأن تركيا لم تعد تحدد ما يسمى "إجماع واشنطن" على أنه الشيء الوحيد الذي يجب التمسك به، حيث أصبحت مؤخرا تميل بشكل أقرب إلى ما يسمى "إجماع بكين" على غرار العديد من الدول الصاعدة الأخرى.
وإذا كانت جهود تركيا لتعزيز علاقاتها مع الصين تأتي تحت مسمى "التأقلم" مع العصر متعدد الأقطاب الصاعدة، والتأثير في الساحة العالمية، فسيكون هذا أمر جيد.
وإلا، فإن التقارب مع الصين على حساب التحالف الأمني الذي استمر لعقود طويلة مع الغرب، سيكون بمثابة إستراتيجية محفوفة بالمخاطر، نظرًا للدرجة العالية من العلاقات بين تركيا والجهات الفاعلة الغربية.