يبدو أن عصرا جديدا في النزعات الانفصالية بات يتشكل، ثمة موجة من الانفصالات تعصف بالعالم ولا تميز بين دول ديمقراطية من المفترض أنها دشنت كيانات سياسية تاريخية لكل مواطنيها، وبين دول شمولية وشبه شمولية وأخرى انتقالية ما تزال حائرة، وتأخذ النزعات الانفصالية للجماعات القومية والاثنية شرعيتها من الدعوات المتكررة لإجراء استفتاءات شعبية، مثلما جرى في كردستان العراق، وفي كتالونيا في إسبانيا، وقبلها في إسكتلندا في المملكة المتحدة، وما هو على الطريق وآخرها إعلانات قادمة من جنوب اليمن عن النية لإجراء استفتاء انفصال آخر، بينما ما تزال تداعيات هذه الإجراءات التاريخية غامضة بين ميلاد كيانات جديدة بعضها غير قادر على البقاء والاستمرار وبين موجة حروب جديدة علاوة على البؤر الانفصالية المرشحة للمزيد من السخونة في مناطق مثل (تشيشينيا في روسيا وشرق أوكرانيا حاليا، وكشمير في الهند، التأميل في سيريلانكا، الشياباس في المكسيك).
يتفاوت وصف النزعات بين العبث بالجغرافيا التاريخية وبمبدأ وحدة أراضي الدول وسيادتها، وبين الحق في تقرير المصير؛ إلى اليوم لا توجد لدينا أطر نظرية واضحة الملامح تفسر ما يحدث في العالم، وسيبقى هذا الأمر لوقت ليس بقليل، وعلينا أن ندرك أن هذا الأمر حدث مرات في التاريخ، وهذا ما يفسره منطق الدورات التاريخية، بينما علينا البحث عن جذور هذه الأعراض في القواعد المؤسسة للأنظمة الدولية وبالتحديد الجوانب الاقتصادية التي حكمت العالم على مدى نحو ثلاثة عقود مضت.
هذه التحولات باتت تلقي بالمزيد من الغموض والتناقض على العلاقة بين الحق في تقرير المصير الذي تستند إليه الجماعات الانفصالية في أغلب الأوقات، وهو حق يكفله القانون الدولي وبين مبدأ وحدة أراضي الدول أو السيادة الذي يعترف به ويكفله أيضا القانون الدولي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما يسمى بالقانون الدولي لا يوجد به أي صفة إلزامية واضحة أو قوة ردع. كما هو الحال في إعادة تعريف الشعوب التي ينطبق عليها الحق في تقرير المصير؛ فالجماعات القومية المتعددة التي شكلت عبر التاريخ دولة وطنية قد لا ينطبق عليها هذا المفهوم - لدى البعض- كما هو الأمر في حالة إسبانيا وكتالونيا.
المهم أن نجاح الحركات الانفصالية في عدد جديد من دول العالم سيكون بداية لتغيير قواعد شبه ثابتة في العلاقات الدولية، وربما يشجع جماعات أخرى كان العالم يعتقد أنها انصهرت في الدول القائمة، والأخطر من ذلك أن هذه النزاعات تضرب المجتمعات الديمقراطية أيضا، ما قد يجعل السنوات القادمة تحمل مفاجآت ربما غير متوقعة.
يذهب مناخ الانفصالات والتجزئة الجديدة إلى أن عصر العولمة السياسية والاندماج كما كان يوصف في تسعينيات القرن الماضي قد رحل بالفعل. الجذر العميق للأشكال المتعددة من تفسخ العولمة يبدو في أن حلم العالم الواحد بات سرابا فعليا حينما ثبت للناس أن فكرة "المجتمع العالمي الذي يعمل من أجل الجميع" لم تكن إلا مجرد خدعة أو على أقل تقدير فكرة خيالية لم تتحقق، وهذا ما يذهب إليه روشير شارما مؤلف كتاب "صعود وانهيار الأمم" الذي يشير إلى أن الاقتصادات الأكبر لـ46 دولة في العالم، تشهد بشكل متزايد ظاهرة سوء توزيع الثورة وتفشي عدم العدالة الاقتصادية؛ بشكل عام علينا أن نلتفت إلى ما يحدث في أماكن أخرى من العالم بعيدا عن العمى الذي أصابنا به دوار الشرق الأوسط الذي لا ينتهي.
الغد الأردنية