مصر بين «علشان تبنيها» و«علشان نحميها»عبير ياسينOct 17, 2017«لقد قمت اليوم بهذه الوثبة من أجلكم ومن أجل تحقيق الديمقراطية، ومن أجل التمهيد للديمقراطية قررت الآتي.. إعلان قيام الديكتاتورية في البلاد»، كانت تلك ببساطة كلمات السيد «ثقيل الندمان» في مسرحية «تخاريف ـ 1988».
ديمقراطية تبدأ بإعلان الديكتاتورية، وحاكم يؤكد أنه يقبل بالحكم «طالما الشعب طيب ومهاود»، في وضع مقارب لكلمات أغنية «اخترناك» التي أتعامل معها بوصفها الأغنية المعبرة عن مرحلة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، التي تعود للواجهة وهي تردد: «وده تكليف مش تشريف وعشان كده أحنا اخترناك».
لا يعني ما سبق أن المواطن يختار حقا، لأن الحديث هنا تعبير عن الحاكم ورؤيته للشعب والسلطة، وهو ما يعبر بدوره عن جزء أساسي من الأزمة التي نعيشها، أو جزء من الأساطير كما سميتها من قبل، حيث يتعطف الحاكم بتولي الحكم، ويؤكد بأشكال مختلفة على أنه أعلى من المنصب، والشعب هو من يحتاجه. علاقة تؤسس على افتراض خاطئ ومخالف لأصل الحكم والسياسة، وهو أن الحاكم، والمسؤول في منصبه، هو الأب وكبير العائلة الذي لا تستطيع العائلة الحياة من دونه. تقزيم متعمد للدولة وتعظيم مستهدف للحاكم ودوائره وكل من يلتحق بتلك الدوائر خلال مدة الحكم، عبر تقديم صكوك الولاء والمنافسة في سباق دعم السلطة والدفاع عنها.
تشبيهات تبدو واضحة في أحاديث عبد الفتاح السيسي، بداية من اللقاءات التي ظهر فيها بعد إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية، وتأكيده على أن ترشحه مجرد خضوع لمطالب الجماهير، لدرجة تبريره غياب برنامج رئاسي بفكرة
التفويض، والوقت الذي تفرغ فيه لدوره في الجيش بوصفه وزيرا للدفاع. تفويض يمتد في خلفية المشهد، فالقرارات الصعبة يتم تمريرها باسم السيسي، كونه المفوض ورئيس الضرورة، والتحركات الشعبية يتم تعظيم الحديث عن المخاوف منها في البداية، حتى يتم استغلال فشلها لتأكيد الشرعية واستمرار حالة التفويض في النهاية.
واقع يظهر واضحا في تعليقات متعددة للسيسي الرئيس، وهو يؤكد على فشل الخبراء في قراءة العلاقة الخاصة التي تربطه بالشعب، ويؤكد في أحاديثه بعد كل ارتفاع في الأسعار على قيمة صبر وتحمل «الشعب العظيم»، وفي كل حديث عن «أهل الشر» على أهمية «الكتلة الصلبة»، التي تعبر بدورها عن الكتلة المفوضة والداعمة، من دون برنامج أو خطة أو محاسبة.
تبدو تلك الخلفية مهمة في محاولة قراءة حملة «علشان تبنيها» التي انطلقت عبر محافظات مصر، وأعادت تذكير البعض بحركة «تمرد». جاءت «تمرد» لتطالب بإسقاط نظام الرئيس الأسبق محمد مرسي، عبر الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، في حين تأتي حملة «علشان تبنيها» لتدعو إلى ترسيخ نظام حكم وضمان استمراره.
أما التشابه فهو التساؤلات التي تحيط بتلك الحملات ومن يقف خلفها ويمولها وينسق أعمالها، خاصة في ظل الانتشار والتنظيم الذي تشهده، في محاولة للتأكيد على أنها شعبية بالمخالفة للحقيقة، فهي في النهاية تعبير عن جهات ما تتوجه للشعب للحصول على تأييده، من دون وجود وسيلة موضوعية للتأكد من حقيقة تلك الأصوات والتوقيعات، سواء على الأوراق أو وسائل التواصل الاجتماعي.
التأكيد على شعبية الحملة يتشابه مع فكرة خلق كذبة وتكرارها حتى يتم الاقتناع بمصداقيتها، تختفى الحقيقة في التفاصيل، ولا تعرف من صاحب البداية ومن صاحب النهاية. تتوه في تفاصيل كثيرة كما حدث مع «تمرد» نفسها، وكما حدث مع ثورة الغلابة، وغيرها من التحركات التي تحتاج إلى البحث في تفاصيلها وتطورها ومن يدعمها ويدافع عنها، وغيرها من الأمور المحيطة للتعرف عليها وتمييز ما يراد الإعلان عنه أو السكوت عنه، والأسباب وراء هذا.
تعلن الحملة أنها شعبية ثم يعلن انضمام أحزاب لها وشخصيات معروفة وأعضاء برلمان وأعضاء في السلطة التنفيذية من وزراء ومحافظين، ثم يطالب الشعب بالتوقيع.
في الوقت نفسه، فإن العنوان مهم للغاية لأنه يعبر عن جزء أساسي من فكر السيسي، وما يراه أسس شرعيته. ورغم أن البعض يحاول التعامل مع الحملة بوصفها تعبيرا عن تناقص شعبية السيسي، أو خوف النظام من المعارضة والمرشحين الآخرين في الانتخابات الرئاسية المفترضة في 2018 إلا أن حقيقة الموقف تبدو مخالفة لهذا.
بداية لم يعلن السيسي ترشحه بشكل رسمي، وفي الوقت نفسه، وبافتراض ثبات كل المؤشرات القائمة، فإن نجاح السيسي في الانتخابات المقبلة يبدو محسوما، ولكن السؤال الحقيقي عما يمكن أن تحققه تلك الحملة، ولماذا لم يطلق عليها «علشان يبنيها» بدلا من الاسم الحالي «علشان تبنيها»؟ يأتي الجواب من خلفية ما سبقت الإشارة إليه وأحاديث السيسي عن حكمه، فالحملة هي خطوة مبكرة وضرورية من قبل النظام، لتأكيد أن ترشح السيسي سوف يتم التعامل معه في خانة التفويض. تأتي قبل أن يعلن السيسي نيته في الترشح لتكون سابقة على الإعلان، وتتيح له الفرصة لتأكيد أنه يستمر من أجل الشعب الذي طالبه بهذا.
وفي الوقت نفسه تؤكد عبر العنوان على أن التفويض يعنى مشاركة الشعب مع الرئيس في عملية البناء، وما يترتب عليها بالتالي من معاناة وتضحيات وتحمل. وهو مرة أخرى جزء من أحاديث السيسي المتكررة في إطار التفويض، فمادام الشعب فوّض فهو شريك لأن السيسي، الذي تولى السلطة من دون برنامج ومن أجل الجماهير التي فوضته – رغم اختلاف موضوع التفويض- مجرد شريك لا يستطيع تحقيق البناء وحده، وهو ما يظهر في أحاديث كثيرة يؤكد فيها على أهمية تماسك «الكتلة الصلبة» وأهمية الصبر في مواجهة التحديات.
وبهذا كان من المهم للحملة أن تقول «تبنيها» فالمواطن يشارك في البناء عبر اختياره استمرار السيسي، أو بمعنى أدق، مطالبة السيسي بالترشح وبالتالي تفويضه بالاستمرار على النهج نفسه الذي اتبعه. وهكذا فإن التفويض شديد الأهمية لأنه بداية يسمح بالتعبير عن أصوات تبدو كثيرة للغاية عبر صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة، وعبر الاستمارات، كما حدث مع تمرد من قبل، إلى جانب أنه يسمح بالتأكيد على أن الترشح ذاته تفويض بالاستمرار من دون انتظار لبرامج أو سياسات يعبر عنها المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، كما حدث من قبل.
التفويض المسبق والمفتوح – من دون برنامج- شديد الأهمية لما يمثله للسيسي من فرصة لاتخاذ قرارات صعبة داخليا وخارجيا، وسواء أكانت تلك القرارات تتعلق بالقضايا السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية بكل تجلياتها. التفويض المسبق، هو تأكيد على قبول المسار الحالي وما يمكن أن يترتب عليه. وإن كان المسار الحالي قد شهد تناقضات وتقلبات وقرارات خطيرة، مثل التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، واستعداء حماس ثم الحوار معها، والكثير من التحديات الاقتصادية والاجتماعية في ظل القروض المتزايدة والإنشاءات التي تستنزف الموارد، فإن تفويضا جديدا يبدو ضروريا – من وجهة نظر السلطة – لتمرير كل ما يخص تعميق تلك القرارات وتنفيذ سياسات أشد خطورة على الأرض.
التفويض الثاني قد يكون شديد الأهمية للمسار الثاني من السياسات والتنازلات المحتملة والضغوط الاقتصادية المتزايدة.
تحمل عبارة «علشان تبنيها» اختصارا واضحا لما يلي تلك المرحلة ويصب كله في مصلحة الرئيس- الزعيم، بداية من «علشان تبينها» أيها المواطن: أختار السيسي، ولابد أن يستمر السيسي، ولا يوجد بديل غير السيسي.. إلى الموافقة على ما هو قائم وما يتبعه من سياسات.
تلخص «علشان تبينها» عقلية حكم التفويض وأهمية استمراره، فإن كان المرجح نجاح السيسي في الانتخابات المقبلة، فإن ما يحصل عليه من مطالبة بالترشح – تفويض- ثم حضور للجان يرتب الكثير في ما يخص الأوراق التي يملكها للخارج، وهو يتجاوز عن الحقوق والحريات والديمقراطية من أجل ما يمكن أن يقدمه في القضية الفلسطينية، ودعم النظام السوري القائم.. كما أن التفويض يحمل رسالة للأطراف الأخرى بأن الشعب هو الذي فوض واختار السيسي، وهو يعرف كيف هو نظام حكمه، وبالتالي يكتسب النظام قوة أكبر في رفضه للتنديد الذي يتعرض له بسبب انتهاك الحقوق والحريات.
بالمقابل يطرح البعض التساؤل النقيض عما يحدث غن استمر السيسي ضمن شعار «علشان نحميها»، وضرورة حماية مصر من استمرار النظام القائم بكل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي فرضها بما فيها التنازل عن الجزر، وتراجع المكانة، والتحول إلى ترس في عجلة مشروعات إقليمية تضمن بقاء النظام، لكنها لا تضمن مكانة الدولة واستقلالها وسيادتها بالضرورة.
تقف مصر في ما يبدو أنه مفترق طرق، ولكن الحقيقة أنها أقرب لسيناريو تفويض آخر يفرض عليها باسم الشعب والمصطلحات الكبرى الخالية من المعنى، وهي تقدم المواطن بوصفه شريكا، في حين أن دوره ينتهي أمام الكاميرات وهي تلتقط صور الحشود المفترضة للتفويض والانتخاب، وما عدا هذا يكون على المواطن أن يجلس ويستمع لحديث «الشعب العظيم» وهو يتحمل معاناة بعد معاناة. وعلى الجانب الآخر يقف من تم تفويضه – نظريا- متفردا باتخاذ القرارات التي تجعل القبول بالتنازل عن الجزر، وتحمل المعاناة، والصمت في مواجهة القمع، وطنية.
وفي حين يشد الشعب الحزام، يبسط النظام سجاجيد حمراء، ويركز على إنشاء المزيد من المباني واللقاءات، من أجل تخليد الحاكم. وفي النهاية يظل من المهم إدراك حقيقة الأشياء والشعارات الكبرى التي تفرض علينا، وتفكيك ما فيها من تناقض وما تحمله من رسائل من أجل حماية الوطن التي تتجاوز مصالح السلطة الضيقة للبقاء والاستمرار، وتتعمق لوجود الوطن وحماية مصالحه في الحاضر والمستقبل.