خضع مفهوم الديمقراطية في العالم العربي لعمليات مسخ وتشويه كبيرة، فقد تصوره البعض على أنه مفهوم قابل للتحقق في المجتمعات الإنسانية كافة مهما اختلفت الشروط التي تكونه، متناسين أن الديمقراطية ليست مفهوما متحققا بالفعل بقدر ما هو مفهوم موجود لا يتحول إلى الفعل إلا عبر جملة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
مفهوم الديمقراطية لم يتحقق في العديد من الدول الغربية إلا بعد صيرورة من التحولات الديالكتيكية الداخلية التي هيأت التربة الخصبة لنشوء مثل هذا المفهوم وغيره من المفاهيم السياسية الأخرى، في حين تفتقد المجتمعات العربية على طول التاريخ الإسلامي لأي شكل من أشكال المشاركة السياسية، الأمر الذي يدفعنا إلى تقصي الأطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات العربية الراهنة بغية الكشف عن مقدرتها في الوفاء بمتطلبات الدول الديمقراطية من دون اللجوء إلى أي محاولة من شأنها اجترار مفاهيم مستوردة من سياقها التاريخي, ذلك أن المفهوم كائن تاريخي في جوهره يتم إنتاجه في لحظة تاريخية معينة من قبل جماعات بشرية لها خصائصها التي تميزها عن غيرها من الجماعات.
فحينما ننظر إلى تاريخ المجتمع العربي الإسلامي نجد أن هذا المجتمع يفتقد إلى مثل هذه التحولات التاريخية التي من شأنها إحداث تغير جذري في بنية المجتمع تدفع باتجاه بناء مؤسسات اجتماعية سياسية قائمة على المشاركة السياسية للجماهير.
والحق أن بحث مجمل العلاقات الاجتماعية والسياسية والدينية في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط يبين أن هذا المجتمع يفتقد إلى الخواص المقومة لنشوء أي نظرية سياسية في الحكم قائمة على المشاركة السياسية، فالسمة الدينية للحكم في الإسلام بما تضفي على نفسها من قداسة حولت الحاكم إلى دولة والدولة إلى حاكم ما ساعد على توطيد أركان الدولة التوتاليتارية القائمة على الاستبداد السياسي والديني معا.
وكذلك لعبت العلاقات القبلية- الطائفية دورا أساسيا في توجيه الحراك السياسي, ويمكن القول إن السياسي لعب دورا في توجيه في توجيه العلاقات القبلية الطائفية, وهذا لأن ثمة علاقة جدلية بين السياسي والطائفي والديني، إذ أن في التشكيلات السابقة على الرأسمالية كما يرى لوكاتش تتحد فيها المؤسسات الاجتماعية بعضها ببعض بحيث تكون فيها العلاقات العصبية القبلية هي المهيمنة، ويذهب الجابري إلى أبعد من ذلك حين يرى أن اللاشعور السياسي في المجتمع العربي القديم يكمن في إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والعشائري على عكس اللاشعور السياسي عند ريجيس دوبري الذي يقوم على إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي للمجتمعات الأوروبية.
ومع ضعف هذه العوامل في المجتمع العربي المعاصر وظهور شبه قطيعة تاريخية مع المجتمع العربي القديم نتيجة قيام مجتمع استهلاكي ناشئ عن تفكك البنية الاقتصادية التقليدية من جهة، وظهور نمط سياسي اجتماعي من جهة ثانية، ما زالت هذه العوامل تلعب دور اللاشعور السياسي في توجيه مجمل العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا أمر طبيعي في مجتمع لم يحقق الحداثة، وإنما تم تحديثه بصورة هجينة جمعت بين النموذجين القديم والحديث عللا نحو تلفيقي، إذ ما زال الشعب العربي يعاني من:
1) سيطرة الصراعات القبلية والطائفية والدينية على اللاوعي الجمعي لدى مختلف الفئات الاجتماعية, في الوقت التي تغيب فيه الصراعات الأفقية الطبقية التي تصطرع فيها جماعات وتنظيمات اقتصادية سياسية وحزبية تعبر عن مصالح مختلف الفئات الاجتماعية.
2) غياب الإرث الحقيقي للديمقراطية المتمثل بشكل خاص في الدولة, ذلك أن الدولة لم تخلق من رحم الواقع وإنما فرضت عليه بشكل قسري، ما أفرغ الدولة عن ماهيتها الحقيقية لتتحول إلى دولة إكراه تقوم على فرض سيطرتها على نواحي المجتمع كافة فرضا تعسفيا، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن الحديث عن الديمقراطية لأن الدولة هي المقوم الأساسي لها، وغياب الدولة يعني غياب الديمقراطية ( حكم الشعب ).
3) غياب المساواة الاقتصادية العادلة بسبب سيطرة الاقتصاد الريعي الذي تتحكم فيه الدولة مباشرة، فعلى الرغم من دخول الرأسمالية إلى المجتمع العربي، عجز الأخير عن إقامة علاقات إنتاجية رأسمالية، الأمر الذي خلق رأسمالية هجينة تابعة من جهة، وحال دون قيام طبقة برجوازية حقيقة تسعى إلى إقامة مؤسسات اقتصادية وسياسية قائمة على المشاركة الفعالة والمنافسة الحرة من جهة ثانية، وفي ظل غياب هذه المساواة الاقتصادية لا يمكن الحديث عن الديمقراطية لأن الديمقراطية الاقتصادية كما أكد روسو شرط ضروري للديمقراطية الاجتماعية والسياسية.
وانطلاقا من هذه العوامل فإن تطبيق الديمقراطية في المجتمعات العربية المعاصرة ما قبل الرأسمالية وما قبل المدنية لا بد أن يؤدي إلى ارتكاسة قوية في المجتمع تطفو على أثرها الانتماءات الطائفية والعشائرية والقبلية بحيث تكون الموجه الفعلي للعلاقات الاجتماعية والسياسية كافة.
ولكن هذا لا يعني رفضنا للديمقراطية، بقدر ما هي دعوة إلى بحث الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للواقع العربي، وضرورة طرح سؤالنا الديمقراطي من دون إجراء أي عملية نقل مطلقة وتعسفية للمفاهيم الغربية، فالتطور التاريخي للديمقراطية الغربية يبين أن هذه الديمقراطية تطرح أسئلة نظرية في كل مرحلة تاريخية كان عليها ذاتها الإجابة عنها واقعيا، فمرة طرحت الديمقراطية بوصفها عقدا اجتماعيا ومرة بوصفها مجتمعا مدنيا، ومرة أخرى بوصفها انتخابات برلمانية...
ولذلك فأن الديمقراطية العربية عليها أن تسأل أسئلتها النظرية أيضا، ولكن بشروط الإمكان التاريخي كي تستطيع الإجابة عنها واقعيا، فمن الخطأ الحديث عن الديمقراطية العربية عبر البحث عن معانيها الحالية كما هي متحققة الآن في الغرب، لأن ذلك سيطرح أسئلة غريبة لا تستطيع الديمقراطية العربية الإجابة عنها واقعيا.