صحيح أن هناك حالة من التفاؤل في الشارع الفلسطيني بعد توقيع اتفاق القاهرة بين حركتي فتح وحماس مؤخراً، لكنَ حالة الشك في إمكانية الاستدامة ما تزال حاضرة وبقوة؛ فالتجربة الماضية من سلسلة اتفاقيات المصالحة الفاشلة هزت ثقة الفلسطينيين بقيادة الحركتين في الضفة الغربية وغزة على حد سواء، وتحولت المصالحة حتى وقت قريب إلى أضغاث أحلام، يستعيذ الفلسطينيون من ذكرها.
تساؤلات كثيرة أثارها الاتفاق الذي كان - إلى حد ما – مفاجئاً في توقيته، متسارعاً في خطواته؛ فما الذي اختلف هذه المرة عن سابقاتها كي تُقدم حماس على تنازل جوهري كـ"إدارة" القطاع، وتذهب طوعاً أو كُرهاً إلى المصالحة؟ وما الذي جد على حركة فتح كي تقبل باحتضان غزة وتتكفل بفواتيرها الإدارية والمالية الباهظة؛ فمشاكل القطاع لا تُعد ولا تُحصى نتيجة الحصار الإسرائيلي الذي طال أمده.
يُردد شعبيا المثل القائل: "لا يُجبرك على المر إلاَ الأمر منه"، ينطبق ذلك على الحركتين، فكلتاهما بحاجة للتصالح بسبب المتغيرات الداخلية والخارجية التي جعلت قضية فلسطين على الهامش، وبعد فقدان الكثير من الداعمين أو اللاعبين في فلك الحركتين من عرب وعجم لأسباب مختلفة.
حماس لم تعد قادرة على تلبية احتياجات أهل غزة الحياتية من كهرباء وماء في ظل إغلاق المعابر والحصار الإسرائيلي، وعقوبات السلطة التي فُرضت على القطاع بعد تشكيل الحركة لجنة لإدارة شؤونه، فازدادت الأمور تعقيداً، لذلك لم تجد بُداً من الانحناء أمام الضغوط الممارسة عليها. أما فتح فباتت وبدون أدنى شك مرتعبة من فكرة التقارب بين حماس والقيادي المفصول محمد دحلان، وهو ما تهدد مصر برعايته في حال استمر الانقسام وفشلت المصالحة مجددا، كما أن السلطة وصلت إلى مرحلة يأس من مسار المفاوضات الوهمية مع إسرائيل، بعد أن فشلت فشلا ذريعا في تحقيق حلم الدولة من خلاله، لذلك أصبح لزاما عليها أن تعود لشريكها الفلسطيني كي تكون موحدة أمام أي تحركات دولية مستقبلا.
من ناحية أخرى، يبدو أن هناك ضغوطاً خفية تمارس على السلطة الفلسطينية لإنجاز هذا الملف تمهيداً لصفقة القرن التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في وقت سابق، وتتضمن خطة للتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وربما يكون ذلك تفسيرا منطقياً لرفع الفيتو الأميركي عن المصالحة هذه المرة. لكن إلى أي مدى ستنجح المصالحة؟
في الحقيقة، إن حجم الاختلاف بين حماس وفتح كبير للغاية حيث البرامج والأفكار متناقضة، ولا يمكن إحداث اختراقات جادة بينهما من خلال اتفاق مرحلي لا يعرف الفلسطينيون منه إلا القليل، لذلك تظل الأسئلة الكبيرة حاضرة حول ما يُعد له في الغرف الخلفية إلى حين التوصل إلى اتفاق نهائي، يتضمن القضايا الجوهرية كالحكومة ومنظمة التحرير والمجلس الوطني والانتخابات، الخ.
من التساؤلات المهمة التي تُطرح في هذا المقام مصير سلاح المقاومة في غزة، خاصة بعد عودة الحرس الرئاسي إلى المعابر، وتسلم الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية المؤسسات الأمنية في القطاع كما ورد في اتفاق القاهرة. ربما تكون الحركتان اتفقتا على تأجيل النقاش في هذا الملف أو عدم المساس به الآن، لكن الأمر لن يستمر لاحقاً، فالسلطة كما تجاهر دائماً، تقدس التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وترفض مبدأ المقاومة المسلحة، لذا على حماس أن تكون مستعدة لمثل هذا السيناريو.
في هذا الإطار، يؤمن الكيان الذي صمت هذه المرة على تصالح الفرقاء بأن المصالحة ستعمل على تهدئة الأوضاع أمنياً على حدود غزة، مع إمكانية تدخل مصر الصديقة السياسية والأمنية لإسرائيل لإضعاف المقاومة، وقد يكون هناك ملفات سرية في الاتفاق طمأنت الاحتلال على ما هو آت... الأيام القادمة ستكشف عن المزيد من التفاصيل.
وبصرف النظر عن طبيعة المخفي وربما يكون عظيماً ومُكلفاً، إلا أن المصالحة استحقاق لا بد منه، وهي خطوة إلى الأمام، لكن نجاحها يحتاج الى نوايا صادقة، تُغلب فيها حماس وفتح المصالح الوطنية العليا على الحزبية والفئوية، فهل الحركتان مستعدتان فعلياً للتنازل عن مصالحهما التنظيمية لصالح الشعب الذي دفع ثمناً باهظاً خلال عقد من الانقسام! وهل تملكان الإرادة السياسية الحقيقة لفعل ذلك دون مراوغات أو تشكيك؟
درجة التفاؤل هذه المرة إزاء نجاح اتفاق القاهرة أعلى من المرات الماضية، خاصة بعد أن أيقنت الحركتان أنه لا يوجد طريق ثان أمامها، وإلا العودة مجدداً للانقسام، وبالتالي التحول لحالة من الانفصال التام بين هويتين: ضفاوية، وغزاوية.
تعلم الحركتان الآن أن التي ستتنصل من هذا الاتفاق ستحترق فلسطينياً وتصبح لعنة في تاريخ القضية الفلسطينية. فلتكن المصالحة هذه المرة زواجاً كاثوليكياً، يُمنع المتعاقدان فيه من الانفصال! يكفي الفلسطينيين ما عانوه من ظلم ذوي القربى، واتفاقيات لم يكن مصيرها سوى الرفوف والغبار!