قد يبدو مفاجئا ذلك الجنوح إلى الانفصال الذي يجتاح بقعا جغرافية مختلفة من العالم، وكأن هذا العالم الذي اعتقدنا في فترة زمنية ما أنه أصبح عالم الكيانات الكبيرة، القادرة على الحياة والاستئثار بالمكاسب الاقتصادية والهيمنة العسكرية قد بدأ بالتشظي والعودة عميقا في التاريخ إلى مجتمعات ما قبل المدنية.
النزعات الانفصالية ليست وليدة اللحظة، ولا بدعة ابتدعها الكاتالان أو الكرد أو أحفاد "وليام والاس"، فكتب التاريخ مليئة بقصص تفكيك الدول والحضارات، وإعادة بنائها على أسس إثنيه ودينية وهوياتية، فكثير من الشعوب ترى أنها لم تكن صاحبة قرار في شكل الكيانات السياسية التي وجدت نفسها ضمن مكوناتها، نتيجة اختلال موازين القوى في لحظة تاريخية ما جعلت منهم مكونا في خليط، قد لا يجمعهم به الكثير من القواسم المشتركة.
وإذا ما كانت النزعة الانفصالية مفهومة في بعض الدول التي عانت فيها الأقليات من التهميش والظلم ومن استئثار الأكثرية بالثروة والحكم، فإن هذه النزعة قد تكون مستغربة في دول تتمتع أو تدّعي التمتع بثقافة المواطنة والعدالة والمساواة، مثل إسبانيا وألمانيا والمملكة المتحدة أو غيرها من الدول التي تنشط فيها الحركات الانفصالية وإن بدرجات متفاوتة.
خلف النَزَعات الانفصالية تكمن أسباب كثيرة منها الإيديولوجي أو الهوياتي، ومنها الاجتماعي والاقتصادي، ويصعب الفصل بين هذه الأسباب لارتباطها الوثيق بعضها ببعض، أو لاستخدامها بصورة تبادلية من قبل دعاة الانفصال، للعزف على الأوتار الحساسة لمواطنيها، لضمان كسب تأييد اوسع وضم شرائح جديدة إلى جانب الانفصال.
أسباب الانفصال منها المقدس ومنها المدنس، فالقيم المقدسة هي تلك التي لا تخضع للمساومة أو المحاكمة العقلانية، وهي قيم ثابتة يكون الإنسان مستعدا للدفاع عنها بغض النظر عن مبدأ الربح والخسارة، وتغذيها من حين لآخر بعض المكاسب الاقتصادية والحقوقية، وهي التي تخضع للمساومة بين الفرقاء.
يخطئ الكثيرون عندما يحاولون حصر مشكلة النزعات الانفصالية للأقليات بالسعي لتحقيق مكاسب اقتصادية، أو حتى سياسية محدودة يمكن التفاوض حولها، فهناك قضايا تقترب من القداسة مثل الاعتزاز القومي والحفاظ على الهوية وحق تقرير المصير، وعدم الشعور بالدونية، غير قابلة للتفاوض أو الاستبدال.
اعتقد البعض أن النزعات الانفصالية مقصورة على شعوب أو إيديولوجيات دون أخرى، فما جرى من تفكك للمعسكر الشرقي في نهاية القرن الماضي، يجري استنساخه الآن في المعسكر الرأسمالي، الذي ظن البعض أنه بديموقراطيته وعدالته المزعومة والرفاه الاقتصادي الذي يوفره لشعوبه بمنأى عن تسونامي التفكك والانشطار، لكن الأحداث الأخيرة في إسبانيا وغيرها، أظهرت أن هذه الدول تعوم على براكين راكدة لا تدري متى تثور.
غالبا ما يركز دعاة الانفصال لكسب تأييد مواطنيهم على الموروث التاريخي للاضطهاد الذي تعرضوا له، وذلك لاستنهاض الروح القومية لديهم في وجه أي محاكمة عقلانية للموضوع، لذلك نرى الفشل الذريع الذي منيت به معظم الكيانات المتشظية مثل جنوب السودان وتيمور وقبرص وغيرها، التي أنتجت دولا فاشلة وكيانات مشوهة وغير قابلة للحياة.
لن يعدم دعاة الانفصال في معظم الدول قبسا مقدسا يستخرجونه من أعماق التاريخ ليعزز قضيتهم، كما لن يكون صعبا أن يمدوه بالوقود المدنس الذي توفره لهم مصاعب الحاضر وأزماته. لكن السؤال الملح هنا: هل يمكن إيقاف ذرة بعد أن تبدأ جنون الانشطار؟ وما الذي يضمن أن الذرة التي تقبل القسمة على اثنين لن تقبل القسمة على أكثر من ذلك في المستقبل!