تنظر من أعلى جدار الفصل الذي أقامه الإسرائيليون، داخل الأراضي المحتلة عام 1967، تشاهد (في بلعين) واديا، ثم مستوطنة "مودعين عليت" كثيفة البناء، المبنية على أراضي قرى، نعلين، وصفّا، وخربثا، ودير قدّيس، وبلعين. والمستوطنة مخصصة لليهود المتدينين (الحريديم)، وبما أنّ نسبة توالد هذه الفئة عالية جدا بكل المقاييس العالمية، تجد أن أكثر من نصف سكان المستوطنة أطفال تحت سن 9 سنوات. وفي عام 2009 قال أحد المستوطنين لصحيفة واشنطن بوست "إن العائلات (في المستوطنة) لديهم عشرات المواليد كل أسبوع"، وبرأيه هذا سبب لبناء المزيد من المساكن، وبالتالي الاتجاه شرقا لأراضي القرى العربية، المحتلة عام 1967، ولما سألته الصحيفة لماذا لا تتجهون غربا (باتجاه الأراضي المحتلة عام 1948 أو ما يسمونه إسرائيل)، اعترض هذا الشخص، لأنّ تلك المنطقة غابة ويجب حماية البيئة.
تقول أسيرة محررة من مناطق شرق رام الله، إنّها بعد المقاومة المسلحة، وسنوات الأسر، والإبعاد والمنفى، والعمل البيروقراطي، أرادت العودة للأرض؛ لقريتها التي اعتقلت منها، نهاية الستينيات. عادت وصورة أمها في وجدانها، وهي تزرع الأرض لتُعيل العائلة، كيف كان لديها طُرقها الأقرب للطقوس، من انتقاء الثمار التي ستتحول لبذور في العام التالي. أرادت أن تقنع الشبّان بالاتجاه للأرض، واستطاعت بالفعل جعل بعضهم يترك مكاتبه، ولعب "الشدّة" الإلكترونية، للذهاب للأرض. وحاولت تنظيم مشروع قيام شبّان بتسجيل آليات عمل وعادات الآباء والأمهات، حتى لا تندثر مع الوقت، وحتى يمكن تعميمها.
بعد أنّ استطاع أهالي بلعين بنضالهم المدني والقضائي استعادة جزء كبير من أراضيهم التي صودرت من أجل جدار الفصل، حاول شبان من داخل القرية وخارجها أن يصنعوا شيئا في تلك الأراضي يعكس اعتزازهم وتمسكهم بها. فبنوا حديقة أطفال، التقيتُ فيها أشرف، الملقب بالضبع، الذي استطاع في مرة تعطيل آليّات الاحتلال بالتعلق بكفة إحداها، ليعرقل عملها في الجدار ساعات، وهو شقيق الشهيد باسم والشهيدة جواهر اللذين استشهدا في النضال ضد الجدار، وأخبرني أشرف أنّ الاحتلال أصدر أمرا بإزالة غرفة صغيرة بنيت في طرف الحديقة.
عاد كثير من أهل القرية لأراضيهم وزرعوها، حاولت جمعية بدء مشروع زراعة عضوية تتضمن مطعما للطعام العضوي، يكون جاذبا للسياحة، ولأسباب عدة لم يستكمل المشروع. وحاول شبان استخدام الطاقة الشمسية في إضاءة المناطق المحررة، وتجد بقايا هذه المحاولة فوق لوحة وحديقة صغيرة، تتضمن صورة وقصة الشهيد باسم (الملقب بالفيل)، الشهير بصورته وهو يطيّر طائرات الأطفال الملونة في وجه الاحتلال.
في العام الفائت اتصل شبان من خارج القرية بأحد أصحاب أراضي بلعين، أرادوا استئجارها، وشرحوا له الفكرة؟ مزرعة عضوية، يتطور عنها معهد تعليمي صغير، وتتسع المزرعة، وهي لن تكون مهنتهم، فلديهم أعمالهم التي تدر دخلاً، وسيأتي إليها متطوعون من بلدان مختلفة. فقرر صاحب الأرض إتاحتها لهم دون أجر، إسهاما في العمل الوطني.
قبل تَسلّم هؤلاء الشبّان الأرض، كان صاحب الأرض يشكو بأسف، أنّ الأرض والوادي كان فيهما كما يذكر في طفولته، صقور أو طيور أخرى، وحياة برّية ثرية، ومع المستوطنات والحفريات وقنابل الغاز هاجرت الطيور، واختفت الحياة البريّة.
تدخُل المزرعة، تتمتع بفطور من البندورة، والخيار، والفليفلة، وخضار أخرى كلها من نتاج المزرعة العضوية، وبعد الإفطار والشاي، تأكل بطيخا، ومن يستضيفونك مُهاب الفلسطيني من القدس، ويوسف الهندي البريطاني، صاحب الدرجة العلمية في الزراعة.
هناك طبعا مشكلات تسويق المنتوجات العضوية، وهناك متطلبات أخرى لنجاح المشروع، أعاقت في الماضي المشروع السابق في بلعين، وتكاد تعيق مشروع الأسيرة المحررة، ولا يوجد رأسمال وطني يتبنى كل ذلك.
في يوم ادّعى الإسرائيليون وهم يؤسسون المزارع الجماعية "الكيبوتس"، بدعم الصهيونية العالمية، أنّهم يؤسسون بلدا ومجتمعا جديدين، (مع إغفال الوجود الفلسطيني)، ومع الوقت تراجعت حتى فكرة الكيبوتس التي تدّعي المثالية والاشتراكية لصالح المستوطنات دون زراعة، وحيث، وفي أحيان كثيرة، لا يتعايش متدينون وعلمانيون وشرقيون وغربيون معا، بل لكلٍ مستوطنته.
في المقابل هناك فلسطينيون يبحثون عن عالم جديد قديم، يحتاجون سلطات وحكومات ورجال أعمال يدعمونهم ويؤمنون بحلمهم.
وأنت تغادر المزرعة يبتسم مهاب وهو يعلن بشكل عابر: بدأنا نلحظ عودة الصقور والطيور البرية.