الخطوة المهمة التالية التي اتخذتها الحكومة السنغافورية لإصلاح النظام الصحي بغية الوصول إلى التغطية الصحية الشاملة كانت إصلاح مستشفيات القطاع العام وذلك بالارتقاء ببناها التحتية ومن ثَمّ إعطاؤها استقلالية شبه كاملة والابتعاد عن الإدارة المباشرة لها والاكتفاء بوضع ومراقبة تنفيذ الاستراتيجيات العامة وتشجيعها على التنافس الإيجابي فيما بينها بهدف تحقيق المعادلة الصحية والمتمثلة بالارتقاء بجودة الخدمات وفي نفس الوقت خفض التكلفة.
انحصر دور الحكومة في التدخل لتصويب المسار عندما يفشل "السوق" في إصلاح نفسه سواء من حيث "الإغراق" في الخدمات المعروضة أو في نقص هذه الخدمات حيث سيؤدي كلا الأمرين إلى ارتفاع التكلفة، حيث تقوم الحكومة وبصورة دورية بتحديد عدد المؤسسات الطبية والأسرَّة والأطباء الممارسين في كافة التخصصات، وشجعت على الشراكة والتنافس الإيجابي بين مستشفيات القطاعين العام والخاص، وقامت بربط دعمها للمستشفيات بمؤشرات الجودة والكلفة، وفرضت على المستشفيات أن تفصح عن كلف العلاج فيها للجمهور بغية تشجيع الشفافية والمنافسة العادلة.
وبانسحاب الحكومة من الإدارة المباشرة للمستشفيات وإعطائها الاستقلالية، شهدت هذه المستشفيات نقلة نوعية في جودة الخدمات المقدمة مع خفض كبير في الأسعار. كما قامت الحكومة بفرض رسوم متفاوتة على كافة الخدمات المقدمة سواء كان في العيادات أو المستشفيات لأنها أيقنت أن الطب المجاني سيؤدي حتما إلى الاستغلال وهذا من طبيعة النفس البشرية في الاهتمام بمصالحها الذاتية ولو كان ذلك على حساب المصلحة الجماعية على المدى البعيد.
العنصر الآخر المهم الذي تنبّه له القائمون على القطاع الصحي هناك كان العامل البشري، حيث قاموا بالتوسع بابتعاث الأطباء إلى مختلف دول العالم إلى أن وصلوا أن نصف الأطباء السنغافوريين قد تلقوا تعليمهم خارج البلاد وفي نفس الوقت عملوا على رفع سوية برامج التدريب الوطنية وأقاموا شراكات استراتيجية مع مؤسسات تعليمية عالمية رائدة خاصة من الولايات المتحدة لتشاركها تقييم وإدارة هذه البرامج والارتقاء بها.
لقد تم وضع جودة الخدمات المقدمة في قلب عملية إصلاح القطاع الصحي وذلك من خلال فرض مجموعة من المؤشرات التي يتحتم على المؤسسات المختلفة متابعتها والإفصاح عنها ووضعت معايير واضحة يمكن قياسها لمقارنة هذه المؤسسات فيما بينها ومع نظيراتها في الغرب، كما عمدت الحكومة إلى استحداث نظام للمكافأة المالية للمؤسسات وربطته بجودة الأداء وبالكفاءة وبتحقيق الأهداف المرسومة.
لقد قامت سنغافورة باعتماد نوعين من المستشفيات، الأول عام يعنى بالأمراض العارضة والجراحة العامة والعيادات المتخصصة والطوارئ والتي تعمل على مدار الساعة، أما الأمراض المعقدة والتي تتطلب مستوى آخر من الرعاية مثل السرطان والقلب وأمراض الجهاز العصبي وغيرها فقد قامت بإنشاء مراكز تميُّز لها تعنى بهذه الأمراض بصورة متكاملة بدءا بالتوعية والكشف المبكر وصولا إلى العلاج الشامل.
لكن كيف استطاع هذا البلد الصغير تأمين الموارد المالية اللازمة للإنفاق على الرعاية الصحية وكيف تمكن من ضمان استدامة هذه الموارد وكبح جماح انفلات الكلفة في ظل التضخم الذي يعاني منه هذا القطاع على مستوى العالم؟ هذا ما سأحاول التطرق إليه في الأسبوع القادم بإذن الله.