نقرأ على الورق أن البلاد لكل سكانها ونعلّم أولادنا حب الوطن، ولكن ننظر على الأرض فنجد بعض الناس ليس لهم فيها حق الوجود إلا عبيدا أو مهاجرين فإذا طمحوا إلى أكثر من ذلك قمعوا وأقْصُوا.
تختلف أدوات القمع من نظام إلى آخر لكن النتيجة واحدة تعود ملكية البلد وخيراته إلى فئة قليلة بينما توضع البقية الباقية في طرة منسية كأدوات عمل لم تعد لها حاجة إلا عرضا.
الطغم العسكرية العربية ولنصف قرن فعلت ذلك بشعوبها وعندما حان أمل العدالة استعادت الأنظمة قدرتها بسرعة فائقة على حشر الناس في زاوية الأدوات المهملة وظننا أن تونس ستقدم تجربة مختلفة ودفعنا الأمل على حدوده القصوى لكننا نقف الآن على مشهد مشابه لعمل العسكر العربي.
عادت البلد إلى نفس الفئة التي قمعت واستولت طيلة نصف قرن ولم تختلف إلا الوسيلة فالإقصاء الاجتماعي في تونس يتم بطريقة أقل دموية ويغلف فعله بغلاف ديمقراطي لكن النتيجة واحدة. شعب الهامش لا حق له في بلده رغم مهر الشهداء القاني. ليظل السؤال يصرخ هذه البلاد لمن؟
الثورة فصل من الصراع الاجتماعي
هذا ليس اكتشافا جديدا للعجلة. وإنما هي حقيقة بسيطة وواضحة. لقد ثار الفقراء والمهمّشون طلبا لحق الوجود في بلادهم. لقد نهبت ثروات بلدهم وبيعت ولم يجنوا من وجودهم إلا الغبن والفقر. لذلك كانت ثورتهم ذات هدف واضح توسيع قاعدة المشاركة في الفعل الاجتماعي والاقتصادي بالضرورة أي الحصول على المكانة المناسبة ضمن قاعدة الاشتراك في الثروات بصفتها حقا وطنيا. والمشاركة في الفعل الاقتصادي تؤدي بالضرورة إلى وجود اجتماعي مختلف يحرض على المزيد من المشاركة في الفعل السياسي والتحكم والتوجيه. هكذا رأينا الديمقراطيات المستقرة تفعل. والى مثلها طمح الناس ولم يجرموا ولكن.
كان من ضرورات إعادة توزيع الثورة الاقتصادية وتأسيس المشاركة الكاملة والعادلة أن يحاسب من سرق ومن أفسد من استولى ومن ظلم. فعلى قاعدة المحاسبة تتم إعادة التوزيع. السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وكان المسار قد اتجه في التجربة التونسية على الأقل هذا الاتجاه. غير أنه خدع في الطريق. وبعد سنوات ست من الثورة يشعر الناس الآن أنهم قد أعيدوا إلى نقطة البداية(بداية الثورة) أو نقطة (نهاية ما قبلها) أي النقطة الصفر. البلد مملوك لفئة قليلة والهامش ظل هامشا يأكل أصابعه ندما وحسرة.
والسؤال الذي يؤرق التحليل مهما تسلح بأدوات المعرفة لماذا حصل الأمر بهذه الطريقة؟ وانتهى إلى ما انتهى إليه؟
حالات الوجد التي تثيرها الخيبة تسارع إلى اتهام الشعب بالغباء والجهل. فليس أسهل من التنصل من المسؤولية الأخلاقية للنخب برمي الشعب بالجهل والكسل وفقدان الوعي السياسي. وهو اتهام مريح للتحليل ويبرر الالتحاق بصف الغُنْم الرابح. إذ يكفي أن يجلس المحلل المثقف إلى قهوته ويقول هذا الشعب لا يستحق أن نموت من أجله. فهو كتلة غبية وفاسدة في جوهرها. وفي أفضل الحالات ينتهي هذا التحليل الكسول بصاحبه إلى ربوة الفرجة على ما يجري دون فعل إيجابي. ولكن ما ذنب شعب عرف كيف يخرج على الدكتاتورية ويدفع من لحم أبنائه. هناك طرف آخر يجب أن يتحمل مسؤولية التراجع عن الأهداف إلى خرج من أجلها "الشعب الغبي". فمن هو هذا الطرف المسؤول؟
مرة أخرى نعود إلى تحميل المسؤولية لمن نراه مخلا بها واتهم هنا النخب السياسية والفكرية التي تحكمت في مصير الثورة ولم تعرف كيف تناور بها لتخرج الكتلة الثائرة من شعبها إلى بر الأمان و تبدأ معها بناء التجربة السياسية على قاعدة المشاركة الواسعة. هنا سنجد الوعي الغائب بالمستقبل أو بتعبير أدق فقدان الخيال الديمقراطي لدى النخب التي أجيز لنفسي اتهامها بالخيانة.
في الأمثلة الشعبية المتبقية من عصر تعدد الزوجات يقول الذكور (لا الرجال) إذا أراد زوج أن يذل زوجته الأولى فليتزوج عليها فالشقاق بين الزوجتين (الزوجات) ينتهي إلى تدليل الزوج إذ تكيد كل واحدة من الزوجات لضرتها كيدا يرضى الزوج الذي يعمق الشقاق بينهن ويرتاح فيحكم كما يريد. ما جرى بين النخب التونسية التي تحكمت في مصير ثورة المهمّشين هو من قبيل كيد الضرائر لكن من الزوج المتحكم في لعبة التكايد؟
ليس الزوج الخبيث في المثال إلا قوة النظام القديم المالية والاقتصادية التي تحسن زرع الشقاق بين النخب فقد استمالت شقا على حساب آخر فانتهى الجميع إلى السعي في مرضاة الزوج الخبيث. كان هذا ديدن الزوج قبل الثورة ورغم أن النتيجة كانت واضحة للجميع فلولا الدس بين النخب لما حكم بن علي ربع قرن ورغم الدرس الجلي للجميع (كل الزوجات) وغياب بن علي الشخص (الذكر) فإن نظام الدس استمر. بل إن الدس الآن يتم بشكل أكثر ذكاء وحرفية وبدون دم مهراق وما نراه الآن هو أن الضرائر يختلفن فقط في طريقة ترضية الزوج/النظام.
اليسار بطل إسقاط المسار التأسيسي كان (الزوجة) التي أعادت النظام إلى سدة الفعل السياسي فبفعلها وقف النظام المنهار من جديد على قدميه وتقدم نحو الانتخابات سنة 2014 لقد منح اليسار من جديد مفتاح غرفة النوم للزوج. وظل يحرسه خوفا من أن تعود الزوجات الأخريات إلى غرفة النوم. أما الشعور بفقدان المكانة (الحظوة) فقد استبد بالضرة الأخرى الإسلامية التي رابطت عند الباب تتوسل الدخول. وما كان بإمكانها أن تطلب الخلع. فالخلع هنا يعني الموت السياسي. ومع تجربة العذابات القديمة يصبح البقاء خارج بيت النظام يعني سجونه. ومع شحنة مفرطة من التخويف من المؤامرة الدولية تصبح المرابطة أمام الباب حلا مقنعا فهي أقل إيلاما من المرابطة خلف شباك الزيارة في السجون. وأين الشعب الغبي في كل هذا؟
إنه يرى ويشاهد ويعجز عن التدخل فهو لا يملك أدوات الوساطة بين الضرائر ليقول لهن إن الزوج أقل قيمة من أن يسعى في مرضاته وأنه يمكن أن يخلع من كل الزوجات فيظل وحيدا وينهار. هنا نقع من جديد من التمني الفاشل فالشعوب لا تعلم نخبها وإن كانت أسبق منها إلى دفع الدماء وتقديم درس الشهادة.
يبدو لي هذا الاستنتاج سهلا وقريبا إلى حد التبسيط، ولكنه رغم ذلك واقعي ومنتج لرؤية. هذا الرؤية تقوم على أن الثورة العفوية لم تفرز قيادتها الجديدة وإنما لطيبة أو لجهل أو لكليهما قد فرطت في لحظة مهمة من مسارها لما أوكلت قياد الفعل السياسي لنخبة قديمة لم تثر ولم تفكر حتى في الثورة وإنما وجدت (خبزة باردة) فأكلتها واستطابت وضع القائد الذي أسرجت له الخيل.
هذه الرؤية تصغر الثورة وتنزل بها من ثورة إلى انتفاضة أو إلى هوجة دهماء لكن صار لزاما بعد سنوات ست من المسار الديمقراطي المضطرب أن نعيد تسمية الأحداث. ولكن في مسار إعادة تسمية يجب أن نتحلى بقدر من الشهامة لكي لا نتهم الشعب في ضميره الحي فقد أعطى بلا مَنٍّ ولا كلل.
لكن المؤسف في كل هذا أن الردة التي تجرى الآن عن مسار الثورة (التحول الديمقراطي في الحد الأدنى) أن النخب التي استولت على الثورة تمكنت أكثر من الفعل السياسي وصار بإمكانها التلاعب بالدهماء (الطيبة أو الغبية) فحرية الإعلام (وهي أهم مكسب من الثورة) مثلا صارت وسيلة للدس والديماغوجيا. والبلبلة التي تبثها كل صباح تجعل الحليم حيرانا. بما يجعل عامة الناس تبتعد باستمرار عن الأمل في التغيير. وتفقد الأمل في صندوق الاقتراع الذي آمنت ذات لحظة(من الخديعة النخبوية) بأنه وسيلتها للتغير السلمي.
وكلما فقدت الأمل في الصندوق بعد أن غادرت الساحات النضالية كلما ارتدت على نفسها وانكمشت واستعادت حيل التقية الفردية والنجاة بما تيسر وهو ما يريده منها النظام. فشعب مستقيل من الرغبة في التغيير يمكن لنظام يحسن الكيد لحريمه النخبوي.
ولا نجد هنا داعيا فعليا لبث تلك الجمل المتفائلة التي تختم بها مقالات التوعية السياسية فالتشاؤم ضروري لبدء وعي جديد. وهذه جملة متفائلة. ربما تصل بنا ذات يوم (أراه بعيدا) إلى الإجابة عن السؤال هذا البلد لمن؟