أسئلة التاريخ المعلقة على مجهول لا تسقط بتقادم السنين وغياب أبطال الحدث عن مسارح الحياة.
قبل ثلاثين سنة اغتيل في أحد شوارع لندن بمسدس كاتم للصوت رسام الكاريكاتير الفلسطيني «ناجي العلي»، وكان ذلك حدثا مزلزلا في العالم العربي.
بقدر تعبير رسوماته عن المأساة الفلسطينية في الشتات والمخيمات وخلف الجدار وداخل ما تبقى من وطن يقاوم، اكتسب شعبية استثنائية امتدت إلى العالم العربي كله.
هو ابن جيل عاين نكبة (1948) ونزح مع من نزحوا إلى المنافي، واحتفظ وجدانه الصبي بمشاهد المأساة.
من المعاناة نفسها ولدت ظاهرة شعراء الأرض المحتلة وروائييهم الكبار، وكان فريدا بميدانه الفني فلا أحد ينازعه المكانة التي وصل إليها.
عندما تسأل اليوم عمن يتحدث باسم الجرح الفلسطيني ويمتلك قوة الإلهام العام، فإنك أمام ما يشبه التجريف الكامل.
لم يكن اغتيال «العلي» حدثا عابرا، فقد اهتزت معانٍ كبرى وسممت البيئة السياسية.
شيء ما عميق كسر في المعادلة الفلسطينية، اتصل تحت السطح بما جرى بعده في «أوسلو» من تنازلات فادحة.
الرموز تسبق ــ أحيانا ــ الحوادث.
وقد كانت شخصية الطفل الفلسطيني «حنظلة»، التي ابتدعها تعبيرا عن رفض كل تنازل أو استخفاف بأي حق، مقلقة لقوى وشخصيات نافذة بقدر ما هي ملهمة للفلسطينيين العاديين.
«لا أعرف متى تعرفت على ناجي العلي، ولا متى أصبحت رسومه ملازمة لقهوتي الصباحية الأولى؟ولكنني أعرف أنه جعلني أبدأ قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة».
«قل إنه هو الذي صار يحدد مناخ صباحي، كأنه فنجان القهوة الأول، يلتقط جوهر الساعة الرابعة والعشرين وعصارتها فيدلني على اتجاه بوصلة المأساة وحركة الألم الجديد، الذي سيعيد طعن قلبي، خط، خطان، ثلاثة ويعطينا مفكرة الوجع البشري، مخيف ورائع هذا الصعلوك.. إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية، فلسطيني واسع القلب، ضيق المكان، سريع الصراخ وطافح بالطعنات».
هكذا وصفه مبدع فلسطيني آخر هو الشاعر «محمود درويش» في واحدة من أعمق نثرياته ألما، كان يدافع عن نفسه متأخرا بعض الشيء.
في ذلك الوقت تردد على نطاق واسع، سياسيا وإعلاميا، أن الزعيم الفلسطيني الراحل «ياسر عرفات» هو المسؤول الأول في هذا الاغتيال، فقد ضاق صدره بما يرسمه «العلي»، خاصة أن إحدى رسوماته الأخيرة أشارت بالاسم إلى صحفية عربية لها نفوذ كبير داخل منظمة التحرير الفلسطينية، تأمر وتنهى في شؤونها، بسبب صلات خاصة.
حاصرت «عرفات» التهمة الخطيرة، وكان تزامن الرسم مع الاغتيال صلب حيثيات الاتهام.
الاتهام نفسه حاصر «درويش» على خلفية رسم كاريكاتيرى آخر، قبل الاغتيال مباشرة، وصفه بـ«محمود خيبتنا الأخيرة» باستيحاء عنوان قصيدته «بيروت خيمتنا الأخيرة»؛ اعتراضا على ما دعا إليه من فتح حوارات مع اليسار الإسرائيلي.
«كلمته معاتبا، فقال لي: لقد فعلت ذلك لأني أحبك ولأني حريص عليك من مغبة ما أنت مقدم عليه… اخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران».
«كان غاضبا على كل شيء، قلت له: مهما جرحتني فلن أجرحك بكلمة، لأنك قيمة فنية نادرة.. أذكر تلك المكالمة لأن صناعة الشائعات السامة قد طورتها من عتاب إلى تهديد، طورتها ونشرتها إلى حد ألزمني الصمت، فقد ذهب الشاهد الوحيد دون أن يشهد أحد أنه قال ذلك».
لم يخف «درويش» اختلافه مع نهج «العلي»، فـ«قلبه على ريشته، ولأن ريشته سريعة الانفعال والاشتعال لا تعرف لأى شيء حسابا، ولأنه يحس بأن فلسطين ملكيته الخاصة التي لا يحق لأحد أن يجتهد في تفسير ديانتها، فهي لن تعود بالتقسيط، لن تعود إلا مرة واحدة من النهر إلى البحر.. وإلا فلن يغفر لأحد ولن ينجو أحد من تهمة التفريط».
في هذه الصياغة نزعتان متناقضتان بين مبدعين كبيرين، أولاهما ـ حادة ومباشرة وغير مستعدة لأي مساومة.. وثانيتهما ـ براجماتية تطلب التوازن بين المبدأ والواقع.
قد يكون «درويش» لوح بشيء من التهديد في الاتصال الهاتفي النادر بينهما، لكنه يصعب تخيل تورطه في تلك الجريمة التي هزته من أعماقه: «إن ناجي العلي لنا، ومنا، ولنا.. ولنا».
بعبارة بليغة أخرى: «ليس من حق سفاحي الشعب الفلسطيني أن يسرقوا دمعنا، ولا أن يخطفوا منا الشهيد»... فـ«حين استشهد ناجي العلي سقطت عن قلبي أوراق الأغاني لتسكنه العتمة».
في تلك المرثية المتأخرة، التي تزاوج فيها الحزن العميق على رحيل موهبة جامحة والتبرؤ النهائي من أن يكون طرفا في الجريمة، وبعض النقد لنهج «ناجي» في الفن والحياة، يستلفت الانتباه أنه وجه دفة الاتهام إلى إسرائيل.
«كان الأعداء يسترقون السمع إلى هذا الخلاف، كانوا يضعون الرصاص في المسدس، كانوا يصطادون الفرصة».
«إن اغتيال ناجي العلي في لحظة الخلاف العائلي العابرة، هو جريمة نموذجية أتقن الأعداء صناعتها».
هذا احتمال وارد، لكنه ليس مؤكدا.
بشهادة الوقائع، لم يكن الخلاف عائليا ولا عابرا بقدر ما كان عميقا في المناهج والتصورات.
الاتهامات الظنية سيدة الموقف، لها أساس في سياق الحوادث، لكنها لا تصلح بذاتها عنوانا على الحقيقة.
بعد سنة من اغتيال «ناجي العلي» نشر شاعر العامية المصري «عبدالرحمن الأبنودي» ديوانا كاملا في رثائه بعنوان: «الموت على الأسفلت» تنبأ فيه بأنه لن تكون هناك إجابة على سؤال التاريخ المعلق: «ولو اتقتلت.. أوعى تسأل مت بأنهي يد».
وبعد أربع سنوات أخرى تعرض اسم الضحية المغدور بها إلى تنكيل معنوي وإعلامي ممنهج وواسع في مصر، ونكل في الوقت ذاته بالفنان «نور الشريف» والتشهير به على خلفية إنتاج وبطولة فيلم سينمائي، يحمل اسم «ناجي العلي» من إخراج «عاطف الطيب».?
تجاوز الهجوم كل حد واتهم «الشريف» بالخيانة الوطنية لدفاعه عن القضية الفلسطينية، دون أدنى دليل نشر أنه تلقى (3) ملايين دولار من منظمة التحرير الفلسطينية لإنتاج هذا الفيلم.
لم يكن ذلك صحيحا من قريب أو بعيد، فقد طلبت قيادة المنظمة رسميا من الرئيس الأسبق «حسني مبارك» منع عرض الفيلم في مهرجان القاهرة، خشية أن يكون تضمن اتهاما لها، وهو ما لم يشر إليه الشريط السينمائي.
لا يملك أحد توجيه اتهام على مثل هذه الدرجة من الخطورة دون أن يكون هناك ما يثبت.
البحث عن الحقيقة في اغتيال «ناجي العلي» هو بحث من نوع آخر عن القضية الفلسطينية، المأساة والمقاومة والانكسار كأن النكبة تعيد إنتاج نفسها.
«خسرت حلما جميلا، خسرت لسع الزنابق، وكان ليلي طويلا، على سياج الحدائق، وما خسرت السبيلا».
هكذا رسم «العلي» شعرا لـ«درويش» في إحدى لوحاته البديعة، وقد اختارها الروائي المصري «بهاء طاهر» غلافا لروايته «الحب في المنفى».
كانت تلك أيام ألهمها «درويش» لمسة إنسانية ومقاومة معا وجسدها بريشته «العلي».
لم تكن مصادفة أنهما فكرا أن يرسم الثاني ما يكتبه الأول من شعر.
بعد سنوات «أوسلو» أدرك «درويش» بضمير الشاعر صحة ما حذر منه «حنظلة»، فهتف من قلبه حزينا على ما آلت إليه قضية عمره: «من سينزل أعلامنا: نحن أم هم؟ ومن سوف يتلو علينا معاهدة الصلح، يا ملك الاحتضار كل شيء معد لنا سلفا، من سينزع أسماءنا عن هويتنا: أنت أم هم؟».
كان ذلك نوعا من رد الاعتبار لما حذر منه رسام جرى النيل منه في أحد شوارع لندن.