أستغرب أن يتم طرح مقترح تعديل الدستور لمد فترة الرئاسة إلى ست سنوات بدلا من أربع سنوات وأمور أخرى تكرس هيمنة أوسع لرئيس الجمهورية، من خلال عضو برلماني حكم القضاء ببطلان عضويته في مجلس النواب، وبموجب الدستور الحالي الذي يطالب بتغييره، تنزع عنه صفة نائب الشعب، حسب نص حكم محكمة النقض، غير أن هذه ليست المفارقة الوحيدة في الموضوع، فالعضو المشار إليه هو عضو في لجنة الإسكان وليس اللجنة التشريعية مثلا، والمسألة ليست الجواز من عدمه، وإنما "اللياقة"، لأن البديهي أن يهتم بشؤون لجنته وقضاياها، أما أن يتركها لكي يبحث في الدستور وتعديله، فهو غريب.
بسهولة يمكن أن ترصد تناقضات في الموقف من المقترح في أعلى هرم السلطة، ويمكنك رصد ما يتردد في الإعلام الموالي، الدولجي، صحفا وفضائيات، لكي تدرك أن هناك صراع أجنحة حقيقيا حول هذا المقترح، فهناك صحف تتبنى بقوة هذا التعديل وتروج له وتهاجم من يرفضونه بخشونة زائدة، وتقدم الشروح التي تراها مهمة لإنجاز هذا التعديل، وهي صحف تتحدث بلسان جهاز سيادي بعينه كما يعرف الكافة، وهناك فضائيات تنسج على هذا المنوال أيضا وأصوات محددة من "الكائنات الفضائية" في الإعلام المصري تدعم الطرح وتهاجم رافضيه، وفي المقابل هناك منابر وأصوات إعلامية تعرف أنها موالية لجهة سيادية أخرى مهمة تقف موقف الناقد أو على الأقل المشكك في هذا المقترح، وتسفه من الفكرة التي وراءه والتبريرات المقدمة له.
أيضا في البرلمان نفسه، ستجد الانقسام واضحا، بين كتل نيابية محسوبة على جناح سيادي بعينه، وكتل أخرى مرتبطة بجناح سيادي آخر، وكل له موقفه من التعديلات، بين متحمس ومروج ومدافع عنها، وبين مشكك فيها ومندد بالاندفاع إليها، وكلهم "دولجية" حسب المصطلح الشائع، ولكن كل منهم مدعوم من جهاز سيادي مختلف.
المفارقة التي يمكن أن تتحول إلى "نكتة" لا تصدق، أن أعضاء البرلمان يطالبون بتعديل الدستور لتقليص صلاحياتهم وصلاحيات البرلمان لحساب رئيس الجمهورية، وبطبيعة الحال ليس هذا من باب "نكران الذات"! والتضحية من أجل الوطن، وإنما من باب الالتزام بالتوجيهات والتعليمات وتنفيذ المطلوب دون مناقشة.
دستور 2014 هو أفضل دستور شهدته مصر منذ تأسيس الجمهورية في 1952، لأنه الدستور الذي كتب بحبر ثورة يناير التي لم يكن قد جف بعد وقتها، وقد حرص على قطع الطريق على صناعة الديكتاتوريات من جديد، كما حرص على أن يكون هناك توازن حقيقي بين السلطات، ومساحة أوسع للحريات العامة وضمانات لحرية الإعلام، ومنح البرلمان قوة حقيقية في وجه مؤسسة الرئاسة، صحيح أنها لم تستخدم حتى الآن ولم تظهر قيمتها لأن البرلمان الحالي نفسه تمت صناعته بطريقة هندسية محكمة من أجهزة نافذة، إلا أنها حقوق وقواعد دستورية يمكن إحياؤها وتفعيلها في أي انتخابات برلمانية "حقيقية" تأتي بعد عامين، كما أن الدستور الجديد منح قدرا من الحصانة والاستقلالية للمؤسسة العسكرية، وكان ذلك مهما بالفعل في تلك المرحلة، ولسنوات طويلة مقبلة لأسباب لا تخفى، كما أن الدستور الجديد عزز من استقلال القضاء، كما قطع الطريق على التلاعب بالمواد الدستورية الخاصة بانتخاب الرئيس، وهي المواد التي تقف عقبة كأداء أمام فكرة تعديل مدة الرئاسة.
مصر الآن في حالة هشاشة دستورية من الناحية العملية، ورئيس الجمهورية يفعل ما يريد وقتما يريد بالطريقة التي يريد، وفكرة المؤسسية شبه معلقة، ولا يوجد استقلالية حقيقية لأي مؤسسة، والأمور تدار بالتوجيه، والقانون نفسه لم يعد هو مرجعية الأمر والنهي والسلوك الرسمي للدولة، وإنما السياسة وتقدير مصالح معينة، ويتم ضبط الأمور بعدها على المقاس، وفي ظل هذا الضعف لبنية الدولة ومؤسساتها، يكون المنطق هو البحث عن حماية المؤسسية وتعزيز توازن السلطات ودعم استقلال السلطات الثلاث، لأن هذا هو ما يجعل الدولة قوية ومحصنة أكثر أمام التحديات، بدلا من أن تكون مرتكنة على "حائط" واحد، إذا انكسر انهار كل شيء، وتجارب الدول وخبراتها، في الشرق والغرب، طوال القرن الماضي أكدت وبرهنت وحسمت الأمور بوضوح الشمس، الدولة تكون قوية بتقوية مؤسساتها وتوازن السلطات فيها وثبات الدستور وحرمة مرجعيته وسيادة القانون سيادة حقيقية، وليس بتقوية شخص رئيس الجمهورية.
المصريون المصرية
2
شارك
التعليقات (2)
ادريس
الثلاثاء، 22-08-201706:09 م
هل تأكدت من أن الانقلاب العسكري لن يكون إلا مهزلة
mm
الثلاثاء، 22-08-201712:07 ص
المأساة أن يكتب الكاتب أي كلام لمجرد الكتابة لكي يشعر أنه مازال يكتب .