هجمات برشلونة وهشاشة المقاربة الأمنية

تكشف هجمات برشلونة الأخيرة وغيرها من الهجمات السابقة في أوروبا وأمريكا عن اختلال المقاربات التقليدية الصلبة العسكرية والأمنية المتعلقة بمحاربة "الإرهاب" والتطرف العنيف، وعلى الرغم من تأكيد الأمم المتحدة على ضرورة الاعتماد على مقاربات تكاملية  تدمج بين مقاربات متعددة وخصوصا المقاربات الناعمة التي تتعلق بإعادة التوجيه والدمج والتأكيد على معالجة الأسباب العميقة المنتجة للعنف، وفي مقدمتها السياسات الدكتاتورية المحلية والنزعات التدخلية الخارجية الإمبريالية، إلا أن معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة ترتكز في سياساتها إلى منظومة عسكرية وأمنية، وقد تراجعت المقاربات الليبرالية غير التقليدية  التي تقوم على إعادة التوجيه والدمج، وبات التعامل مع المقاتلين المفترضين العائدين من ساحات القتال والمتطرفين المفترضين المقيمين، لا يستند إلى المبادئ الليرالية  على أساس مبدأ المواطنة في إطار الديمقراطية وحكم القانون.

على الرغم من السياسات الأمنية المتشددة في أوروبا، إلا أن ذلك لم يحل دون وقوع هجمات بطرائق متنوعة، وإذا كانت الهجمات على مدن أوروبية عديدة كباريس وبرلين ولندن ونيس ومانشستر قد كشفت عن اختلالات وثغرات أمنية واضحة، فإن هجمات برشلونة تكشف عن اختلالات فاضحة في الحالة الإسبانية، سواء على صعيد العمل الاستخباري الاستباقي أو على صعيد التعامل الأمني الميداني، فضلا عن التعامل الإعلامي، وطالما وصفت المقاربة الإسبانية لمحاربة الإرهاب من طرف الشركاء الأوروبيين بأنها تنتمي إلى مقاربات جنوب المتوسط.

يبدو أن اتهام إسبانيا  من طرف الأوروبيين باعتمادها على مقاربات تنتمي إلى فضاءات جنوب المتوسط وهي عبارة ملطفة تشير إلى مقاربات عسكرية وأمنية لأنظمة عربية وعالمثالثية دكتاتورية تفتقر إلى الشرعية والديمقراطية والشفافية تتمتع إلى درجة كبيرة بالصحة والمصداقية، ذلك أن الهجمات البدائية من خلال استخدام العربات والمركبات كأسلحة للقتل لم تكن غريبة وأصبحت مألوفة، لكن تعامل السلطات الأمنية الإسبانية بدا غريبا، فعقب عمليتي الدهس في برشلونة وكامبريلس مساء الخميس  17 آب/ أغسطس 2017 التي أسفرت عن سقوط 14 قتيلا و130 مصابا، برزت حالة من الارتباك والخبط وغابت الشفافية عن تناول الحدث.

رغم تبنى تنظيم الدولة الإسلامية للهجوم بعد فترة وجيزة من وقوعه في بيان بثته وكالة أعماق التابعة للتنظيم والذي قال: إن "منفذي هجوم برشلونة هم من جنود الدولة ونفذوا العملية استجابة لنداءات استهداف دول التحالف الدولي"، الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق وسوريا، إلا أن السلطات الإسبانية لم تأتي على ذكر انتماءات المنفذين وأعدادهم وتوجهاتهم، وكانت التصرحات الرسمية تتسم بالارتجال وتحركات الأمن أقرب إلى العشوائية، وكما هو الحال في بلدان جنوب المتوسط لم تقدم السلطات الإسبانية رواية متماسكة باستثناء ما يتعلق بعدد الضحايا والمصابين، إذ أوضحت السلطات الإسبانية أن الضحايا ينتمون إلى 34 جنسية، وقال الدفاع المدني إن بعض جنسيات الضحايا سواء الوفيات أو المصابين هي: "الفرنسية والألمانية والإسبانية والهولندية والأرجنتينية والفنزويلية والبلجيكية والأسترالية والهنغارية والبيروفية والأيرلندية واليونانية والكوبية والمقدونية والصينية والإيطالية والرومانية والجزائرية".

بعد حادثة الدهس عندم قامت حافلة صغيرة بدهس حشد في لارامبلا الشارع الذي يرتاده أكبر عدد من السياح في عاصمة كاتالونيا أعلنت السلطات الإسبانية على الفور أن الحادثة إرهابية، ومع ذلك تمكن   سائق الحافلة من الفرار بسهولة، وبدأت التكهنات حول هويته وانتماءاته، لكن جهود الشرطة انصبت على حادثة الدهس الثانية حيث أوقفت شخصين هما إسباني ومغربي في بلدتين، تبعد واحدة مئة كيلومتر عن برشلونة والثانية مئتي كيلومتر، دون معرفة الروابط الفعلية، وبعدها أعلنت الشرطة ليل الخميس الجمعة، أنها قتلت خمسة "إرهابيين مفترضين" في كامبريلس، التي تقع على بعد نحو 120 كلم جنوب برشلونة.

حسب السلطات الإسبانية إن المشتبه فيهم الخمسة الذين قتلتهم الشرطة في كامبريلس أقدموا على دهس عدد من المارة بسيارتهم، مشيرة إلى أنهم جميعا كانوا يرتدون أحزمة ناسفة مزيفة، وقال متحدث باسم شرطة كاتالونيا، إن "الإرهابيين المفترضين كانوا يتنقلون في سيارة أودي إيه-3، ودهسوا على ما يبدو عددا من الأشخاص قبل أن يتواجهوا مع دورية لشرطة كاتالونيا الإقليمية، لتبدأ عندها عملية إطلاق نار"، وقالت الشرطة على حسابها على تويتر، إنها تعتبر هذا الهجوم مرتبطا بالاعتداء الذي أوقع الخميس في برشلونة 14 قتيلا وحوالي مئة جريح.

عندما أعلن الناطق باسم الشرطة توقيف مغربي يدعى إدريس أوكبير في ريبول، على بعد نحو مئة كلم شمال برشلونة، لم تقدم أي معلومات حول صلته بالهجمات، حيث توالت عمليات الاعتقال دون بيان الصلة حيث أوقف مشتبه به آخر مولود في جيب مليلية الإسباني في المغرب، على بعد مئتي كلم جنوب برشلونة، ثم  أعلنت الشرطة اعتقال شخص رابع على صلة بهجمات كاتالونيا.

في سياق التخبط ومحاولة التغطية عن العجز والفشل كما هو حال دول "جنوب المتوسط" جرى الحديث عن نجاح بإحباط عملية كبرى كان يخطط لها عن طريق خلية قيل أنها تضم 8 أشخاص وأحيانا 12 شخصا، فبحسب ما نقل يعتقد المحققون في هجومي برشلونة وكامبريلس، أن خلية تضم ثمانية أشخاص ربما تكون مسؤولة، وأنها خططت لتنفيذ هجمات باستخدام عبوات غاز بوتان السريع الاشتعال، وحسب الأجهزة الأمنية فإن الانفجارات التي وقعت في بلدة الكنار الواقعة إلى الجنوب من برشلونة، حرمت المخططين من القنابل والمواد المتفجرة، فلجأوا إلى استخدام السيارات في هجماتهم، وأفادت صحيفة "إيل باييس" الإسبانية أن مصادر في مكافحة الإرهاب أكدوا أن منفذي العمليات الإرهابية في برشلونة وكامبرليس، ينتمون لخلية إرهابية مؤلفة من 12 شخصًا.

في الوقت الذي لا يزال منفذ هجوم برشلونة طليقا أكدت الشرطة الإسبانية أن المشتبه به الرئيسي في هجوم برشلونة، موسى أوكبير وهو شاب صغير يعتقد أنه في 17 من العمر، مواطن إسباني من مدينة غيرونا في شمالي إقليم كتالونيا، ومعظم المشتبة بهم الأخرين من المغاربة، وقالت الشرطة أن موسى أوكبير  كان أحد القتلى الخمسة في عملية للشرطة في بلدة كامبريلس، وأوضحت الشرطة أن المشتبه بهم كانوا يرتدون أحزمة ناسفة لكن تبين لاحقا أنها كانت مزيفة، وهي عبارة  أمنية بليدة باتت مألوفة لإضافة مزيد من الهول والرعب.

إضافة إلى أوكبير قالت الشرطة لوسائل الإعلام إن سعيد علا، 18 عاما، ومحمد هاشمي، 24 ، اللذين نشرت صورتيهما كمطلوبين كانا من بين القتلى، لكن رواية العقل المدبر تبدلت وأصبح هو المشتبه به الرابع، ويدعى يونس أبو يعقوب، 22 عاما، والذي لا زال مصيره غير معروف، وكان ادريس، شقيق أوكبير من بين المعتقلين، وأفادت تقارير أنه سلم نفسه إلى الشرطة، نافيا ضلوعه في الهجمات ومشيرا إلى أن وثائقه الثبوتية قد سرقت.

إن تتبع مسارات هجمات برشلونة على هولها في غاية البساطة فبدون تهويل ثمة شخص لا يزال طليقا تمكن من تنفيذ عملية دهس مرعبة ولاذ بالفرار، وعلى الرغم من أن إسبانيا ليست حديثة عهد بالهجمات الإرهابية إلا أنها كشفت عن مقاربة هشة، فقد كانت سلسلة من التفجيرات المتناسقة قد استهدفت محطة قطارات "أتوشا" في العاصمة الإسبانية مدريد يوم 11 آذار/ مارس 2014، واستهدفت هذه التفجيرات شبكة قطارات نقل الركاب متسببة في سقوط 191 قتيلاً و1755 مصابًا، وكشفت التحقيقات الإسبانية  لاحقًا أن هذه الهجمات تمت عبر خلية استوحت أفكار تنظيم القاعدة الذي قام بهجمات 11 سبتمبر وأثبتت التحقيقات عدم وجود علاقة مباشرة بين تنظيم القاعدة وهذه الهجمات، وبالفعل فقد كانت الخلية مرتبطة أكثر بشبكة الزرقاوي قبل إعلانه الانضمام للقاعدة.

مسارات الفشل الأمني الإسباني بدأ بوضوح منذ أن ارتفع عدد العمليات التي قامت بها السلطات الإسبانية ضد الجهاديين بعد أن أعلنت عن رفع مستوى التحذير من هجوم إرهابي من أربعة إلى خمسة في يونيو/ حزيران عام 2015، ويعني المستوى الخامس من التحذير أن خطر وقوع هجوم إرهابي يعد مرتفعاً، وقبل وقوع هجوم برشلونة  اعتقلت السلطات الإسبانية هذا العام 51 جهادياً بينما اعتقلت العام الماضي 69 و اعتقلت 75 عام 2015 ، بحسب إحصاءات أوردتها صحيفة إلبايس.

بعد هجوم برشلونة تكاثر الحديث عن خلل المقاربة الأمنية الإسبانية فبحسب صحيفة وول ستريت جورنال فإن  هجوم برشلونة يفضح قصور جهود إسبانيا الأمنية، وقال كروكشانك وهو خبير أمني في مقابلة مع محطة سي ان ان: "إسبانيا لم تلعب دورا يقارن بالدور الذي لعبته بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا في التحالف الدولي ضد التنظيم والغارات التي استهدفته في العراق وسوريا، ففي الوقت الذي ذهب فيه نحو 1000 متطرف بريطاني للانضمام للجماعات المختلفة في سوريا ومثلهم من الفرنسيين تقريبا، رأينا نحو 100 إسباني فقط ذهبوا للقتال مع داعش في سوريا والعراق"، ومع ذلك فقد كانت المقاربة الأمنية الإسبانية هشة رغم أنها شددت بالفعل استراتيجيتها في مكافحة الإرهاب عقب هجوم عام 2004  وكثفت نهجها عام 2015 لكن هجوم  برشلونة يؤكد مدى محدودية مثل هذه الجهود،  ورغم أنها أدخلت تعديلات على قانون مكافحة الإرهاب لينص على عقوبات أشد وفُرضت إجراءات أمنية مشددة خاصة حول المناطق السياحية بالإضافة إلى فحص أمتعة الركاب في محطات القطار بمرورها عبر أجهزة الكشف قبل صعودهم إلى متن القطار إلى جانب تشديد الإجراءات الأمنية في المطارات حتى باتت عمليات تسجيل الدخول والخروج أكثر صرامة.

في سياق الجدل حول أسباب تنامي التطرف العنيف في إسبانيا والقارة الأوروبية، فإن الأسباب الموضوعية تشير إلى إشكالات عميقة لدى مسلمي أوروبا بتنامي الشعور بـ "الاغتراب" في ظل اخفاق سياسات الهوية والادماج، وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا وتصاعد الحركات اليمينية والنازية والشعبوية ورواج العنصرية ومعاداة الأجانب والمهاجرين، لكن السبب المباشر لدى قطاعات واسعة يتمثل بنهج السياسة الخارجية التدخلية.

يمكن التأكيد على حجج التدخلية ببساطة، فقد تعرضت إسبانيا لهجمات مدريد  2004 بعد مشاركتها في التحالف الذي قادته أمريكا لغزو العراق وعقب انسحابها لم تتعرض لأي هجمات، وجاءت هجمات برشلونة بعد مشاركة إسبانيا في التحالف الدولي بقيادة أمريكا لقتال تنظيم الدولة الإسلامية،  فعلى الرغم من إيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية المتصلبة إلا أن نهجه الاستراتيجي يتمتع بدرحة عالية من البراغماتية، إذ لم يهاجم التنظيم أوروبا رغم رسائله الإعلامية "بدخول روما وحرق الصليب في دابق"، وعلى الرغم من وجود أكثر من 8 آلاف جهادي أوروبي في صفوفه بحسب بعض التقارير، إلا أنه لم يتبنى تنفيذ هجمات واسعة إلا بعد مرور أكثر من عام على تشكيل التحالف الدولي ضده في أيلول/ سبتمبر 2014.

خلاصة القول أن المقاربة العسكرية والأمنية الأمريكية والأوروبية المتعلقة بالحرب على "الإرهاب" تعاني من اختلالات عميقة، وهي لا تعالج جذور إشكالية التطرف العنيف، ليس لقصور في المعرفة بل نظرا للكلفة المرتفعة استراتيجيا على مصالحها، ذلك أن الأسباب المباشرة للهجمات التي تطال المدن الأمريكية والأوروبية تتعلق بصورة أساسية بسياساتها التدخلية الإمبريالية ودعمها للأنظمة المحلية الدكتاتورية، فضلا عن سياساتها الداخلية  المتعلقة بالهوية والتي ساهمت بصعود اليمين الراديكالي الكاره للإسلام والمسلمين، وهي سياسات تتعامل مع المسلمين كإرهابيين مفترضين وفعليين.