تمكن الإخوان المسلمون من تحقيق نجاح لافت في الانتخابات البلدية في الأردن، التي توازت مع انتخابات اللامركزية التي تعطي المحافظات صلاحيات في اتخاذ القرار في كثير من شؤونها الإدارية، بمعزل عن الحكومة المركزية في عمان.
ونجاح الإخوان أتى في الوقت الذي توقع الجميع أن التنظيم لم يعد يحظى بالقبول نفسه في الشارع، وأنه تأثر كثيرا نتيجة المناخ السلبي الذي يواجهه على المستوى الإقليمي، وأمام المفاجأة الإخوانية فإن العديد من الأسئلة تتعلق بالغياب والحضور في المعادلة الأردنية، التي من شأنها أن تطرح نفسها على المتابعين داخل الأردن وخارجه.
الغياب كان يتمثل في تراجع مريع لقوى المجتمع المدني واليساريين والليبراليين، الذين أثبتوا انقطاع روابطهم مع الواقع ومجرياته، وبدت آثار التعب وانعدام القدرة على الفعل نتيجة انشغالهم بشؤون الإقليم وتطوراته واحتمالاته، سواء على الحدود الشمالية كما يذهب اليسار، أو الحدود الغربية كما يحدق كثيرون آخرون، فما الذي يمكن أن يقدمه اليسار أو اليمين بالنسبة للمواطن الأردني العادي، الذي يتطلع إلى حلول مباشرة لمشاكل واضحة؟ وكيف يمكن لليسار أن يطالب الأردنيين بأصواتهم، بينما خطابه يظهر عناية بالشأن السوري، أكثر مما يبديه من اهتمام بالتحديات الأردنية، ووجوهه التقليدية والصاعدة انشغلت لتخوض معاركها التلفزيونية والصحافية والفكرية، في إطار المؤامرة الكونية الكبرى على دمشق، بينما لم ينشغل اليسار بقضايا استثارت الشارع الأردني، وما هو البرنامج الذي يتوقعه أي ناخب من اليسار الذي لم يخرج من تراثيات الحقبة الاستعمارية ليصبح بامتياز يسارا بنكهة قومية، يجد الأردنيون كل يوم أسبابا جديدة لينبذوها وينقلبوا عليها.
وفي الجانب الآخر ما الذي يمكن للأردني أن ينتظره من اليمين بخليط غير متجانس من الليبراليين والبيروقراطيين والانتهازيين؟ بالقطع لا شيء، فاليمين يبدو متشاغلا بانتظار معجزة من السماء، تأخذ شكل الصفقة الإقليمية لتمكنه من تجاوز الواقع المعيشي اليومي، وتشكل بوابة للخروج من أزمة المديونية والتراجع الاقتصادي، ولا يستوعب اليمين التقليدي، أن جميع عمليات الإنعاش التي توجهت للاقتصاد الأردني، فاقمت من الأزمة الهيكلية المتمثلة في ريعية اقتصادية ومحاصصة سياسية ونخب حكومية أتقنت لعبة ترحيل المشكلات وتبادل الاتهامات.
الإخوان المسلمون استطاعوا أن يسجلوا تواجدهم، لأنهم الطرف الذي يراه المواطن ويتلمسه، كما أن خطابهم، حتى لو كان سطحيا، يظل مفهوما من المواطنين، الذي يجدون فيه ملاذا بعد استنفاد الالتزامات العشائرية التي حملت العديد من المرشحين لمواقعهم في البلديات ومجالس المحافظات، وكالعادة قفز إلى العربة مجموعة جديدة من ممثلي أصحاب المصالح مثل المقاولين والتجار، وكأن هذه الانتخابات هي مجرد ملحق لانتخابات مجلس النواب، لم تكن لتقدم سوى نسخة مصغرة عن المجلس النيابي في كل محافظة.
نسبة التصويت المتدنية في عمان والزرقاء وهما مجتمعتين بنكهة مدينية كانتا على مقربة من التصنيف كحواضر منفتحة ومتنوعة ثقافيا، تدلل على أن الأردن ما زال يراوح في البنى التقليدية المحافظة التي يشكل الإخوان جزءا أصيلا من كيانها، بجانب العشيرة والتجمعات الجهوية، وكلها تقوم على الروابط التي تجعل الشخص فردا ضمن جماعة، يمكن أن تحتضنه وأن تقدم له بديلا مناسبا يلبي احتياجاته المادية والمعنوية.
أما المشروعات السياسية التي يمكن أن تعيد إنتاج الأردني وتنقله من كونه فردا في جماعة إلى مواطن في دولة، فجميعها لم تستطع أن تقرأ الشخصية الأردنية، وأن تتنازل عن أبراجها العالية لتقود مشروع التحديث، كما أن شكوكا واسعة تنتاب الأردنيين حول ما إذا كان القائمون على هذه المشاريع السياسية يمتلكون من حيث المبدأ النية الحقيقية للاندماج في الإصلاح، وأنهم يحوزون الإمكانيات اللازمة والخبرات الضرورية من أجل تفعيله، ولاسيما أن كثيرا ممن أنيطت بهم مهام يمكن اعتبارها إصلاحية كانوا من الفئة نفسها التي أنتجت المشكلات الراهنة، ولا يراهم الأردنيون جزءا من الحل بأي صورة.
الاختبار للإخوان لن يكون أردنيا خالصا، فمن ناحية للإخوان في الأردن وزنهم على مستوى التنظيم الدولي للجماعة، لاستفادتهم سابقا من هامش حرية الحركة الواسع الذي أتاحته الأردن، بينما كانت الفروع الأخرى للتنظيم تعاني من التضييق والمطاردة، كما أن التوقيت يجعل أي تجربة إخوانية محلا لاهتمام كبير، ويكشف مدى قدرة التنظيم على إعادة تقديم نفسه وقدرته على تلافي الأخطاء التي حدثت في تجربتي مصر وحماس، ولكن هل تنبه الإخوان فعلا لضرورة تقديم تجربة مختلفة، أم أن غشاوة السلطة التي حجبتهم عن الواقع السياسي وطبيعة الصراعات مع ما يسمى بالدولة العميقة ستحول دون تقديمهم بوصفهم طرفا قابلا للتطور وتجديد خطابه الذاتي.
يتخوف الأردنيون الذين عزفوا عن المشاركة في الانتخابات في عمان والزرقاء، من شخصية علي أبو السكر الذي أفرزته الانتخابات لموقع رئيس بلدية الزرقاء المكتظة بالسكان والمشاكل، فالقيادي الإخواني بموقعه المتقدم في التنظيم كان موضوعا لجدل ساخن في الأردن، بعد مشاركته في عزاء أبو مصعب الزرقاوي زعيم فرع تنظيم «القاعدة» في العراق، ويبدو أن تغيب الطبقة الوسطى ذات التوجهات المعتدلة والمنفتحة على الأفكار الحداثية عن هذه الجولة الانتخابية، أدى إلى تفريغ الساحة للإخوان والقوى التقليدية.
وبينما تلتفت الدولة الأردنية لمتابعة النخب السياسية والاقتصادية مقابل جيوب الفقر والمحافظات التي تتعرض للظلم في معادلتي النمو والتنمية، فإن الاهتمام برصد أمزجة الطبقة الوسطى المدينية يبدو متراجعا، أو على الأقل موجها في مواقعه الخاطئة. الطبقة الوسطى فاترة بطبيعتها، فلا هي تمتلك المصالح التي تريد أن تدافع عنها، ولا هي تمتلك الغضب الذي يحرك جموعها؛ ولذلك فهي تبقى خارج المعادلة، خاصة أن القوى التقليدية التي يمكن أن تتولى زمام قيادتها، مثل اليسار والليبراليين لم يستطيعوا تقديم نسخة أردنية محلية لبرامجهم، وبقيت طموحاتهم محصورة في الرؤية الوظيفية التي لا يتصورون الأردن خارجها، مع أنها رؤية لا يمكن للعقلية الأردنية التي تشكلت في العقدين الأخيرين أن تستقبلها، في ظل التحشيد الثقافي والإعلامي تجاه بناء هوية وطنية أردنية ناضجة ومتكاملة، ويبقى المؤثر الإسلامي هو الوحيد القادر على تخطي مواجهة نزعة محلية بعد أن سقطت مشاريع القوميين والليبراليين تباعا في الأردن.
التجربة الإخوانية تتصدى لشأن محلي يسهل رصد معطيات النجاح والفشل بخصوصه، ولكنهم بطريقة أو بأخرى يمثلون اليوم تجربة مفتوحة على القراءة محليا وإقليميا، وفي أمور لا يمكن أن يتأتى إصدار الأحكام بخصوصها بالنجاح أو الفشل، من دون كثير من الجدل والتحيز وخلط الأوراق، ولا يمكن لليوم أن يستقر المتابع على عنوان عرض للانتخابات البلدية في الأردن، وما إذا كان من الدقة وصفه بصعود الإخوان، أو سقوط الآخرين.
القدس العربي
1
شارك
التعليقات (1)
سامر - عمان
السبت، 19-08-201704:04 م
هل فعلا التاريخ يعيد نفسه ولو في بعض التفاصيل والجزئيات احيانا؟ قرأت لبعضهم نفس التبرير قديما بعد فوز الاخوان بالانتخابات النيابية عام 1989.
الحقيقة انا مشفق على بقايا اليسار والتفسيرات الديماغوجية التي يحاولون تقديمها في محاولة لتبرير خسائرهم المتتالية التي يلطمهم بها المجتمع العربي.
ليس اليسار والقومية والليبرالية هم فقط المنقطعون عن واقع الناس والمواطنين، بل كثير من الكتاب والمحللين الذين يجهدون بايجاد تفسيرات وتبريرات لما هو واضح وضوح الشمس، الا وهو ان اليسار والليبرالية بضائع غريبة عن طبيعة المجتمع لن تجد طريقها في الوصول الى القلوب والعقول اي الى نسيج المجتمع الداخلي مهما امتلكوا من ادوات الاعلام والكتابة او الادوات الرسمية.