مثلت أوروبا لفترة طويلة حالة فريدة في نظامها السياسي والاقتصادي، وأعطت الدليل على أن الحداثة السياسية -كما الاختيار الاقتصادي- ليس نموذجا واحدا، وأن كل دولة انطلاقا من سياقها الداخلي ومعادلتها الثقافية والاجتماعية حاولت أن تصوغ نموذجها الخاص، الذي بدوره ظل في مسار متحول، يتطور ويتشكل، وأحيانا يواجه تحديات مفصلية تضع النموذج برمته في مأزق، وتحاول بمنطقها البراغماتي أن تقدم أجوبة بهذا الصدد.
بريطانيا مثلا، لما طرح إشكال الرموز الدينية (الحجاب)، التفت على التحدي، وتجنبت الجواب الفرنسي، واختارت أن تنسب هذه الرموز للثقافة وليس للدين، لتخرج بذلك من باب واسع، وتتجنب الوقوع في حرج انتهاك الحقوق الفردية.
في العلاقة بين الدين والدولة، اختارت كل دولة أوربية جوابها المختلف، الذي يبرره سياقها التاريخي والمجتمعي، ومكانة ودور الكنيسة في المجتمع. بعضها قلم أظافر الكنيسة بالمطلق، كما فعلت فرنسا، لكنها تعاملت بشكل مغاير مع إمارة موناكو، وبعضها الآخر احتفظ للكنيسة ببعض أدوارها سواء في التعليم أو الصحة أو غير ذلك، وبلغت النماذج العلمانية في أوروبا إلى درجات جد معقدة من التباين.
في السياسة، اشتركت الدول الأوربية جميعها في تبني الاختيار الديمقراطي، لكن اختلفت المسارات التي قطعتها كل دولة لبناء نظامها الديمقراطي اختلافا كبيرا، وكان من ثمرة هذا الاختلاف أن حصل التباين في شكل أنظمة الحكم والإطار الدستوري لكل دولة على حدة.
في الاقتصاد، خضعت أوروبا أثناء الحرب الباردة لتحدي كبير، فقد وضعت بين كماشتين، أمريكا ممثلة ذروة الرأسمالية الليبرالية، والاتحاد السوفياتي راعيا للاشتراكية ومتوسعا في أوروبا الشرقية وملتهما للعديد من دولها.
لعبت الجغرافية السياسية دورا كبيرا في تكييف الاختيار الاقتصادي لأوروبا، فعلى الرغم من أن كارل ماركس تنبأ بأن الرأسمالية ستظهر وتتطور في أوروبا، إلا أن التحديات التي عاشتها أملت عليها أن تحمي اختيارها الرأسمالي بإجراء تعديلات على نسقه، وإدخال مقتضيات كثيرة من مشمولات الاختيار الاقتصادي الاشتراكي، فأنتجت تجربة ما يسمى بالليبرالية الديمقراطية، تعبيرا عن حقن الرأسمالية بحقن ليست من طبيعتها، وإدخال أنظمة لحماية الاجتماعية في بنيتها الداخلية. وتباينت بشكل كبير أحجام هذه الأنظمة، فأصبحت الدول الإسكندنافية، بفضل كثافة هذه الأنظمة، أشبه ما تكون بدول اشتراكية، مع أنها لم تغادر قيد أنملة في اختيارها الاقتصادي اقتصاد السوق الحر، وبدأ الحديث عن صيغة ثالثة في النظم الاقتصادية تمثلها الحالة الأوربية.
لكن، هل بالفعل أنتجت أوروبا جوابا ثالثا أو اختيارا اقتصاديا مغايرا؟
الجواب عن هذا السؤال، يتطلب استشراف مآل هذا الاختيار، وما إذا كان لا يزال يمتلك أسباب الاستمرار.
صحيح أن أنظمة الحماية الاجتماعية صمدت طويلا في أوروبا، وأمضت في سياق متحول أكثر من نصف قرن، لكنها اليوم تعيش في عدد من البلدان الأوربية تحديات كبيرة، وصل ببعضها حد مراجعتها بشكل كامل أو على الأقل البدء في تقليص امتيازاتها أو تضييق شروط الولوج إليها أو الاستفادة من خدماتها.
مقاربات كثيرة يدفع بها لتفسير هذه التحولات، منها الأزمة الاقتصادية أو الركود الاقتصادي، ومنها ما يرتبط بتوسع دول الاتحاد الأوربي، والتحدي الذي طرحه تأهيل أوروبا الشرقية ومعالجة تداعيات ذلك، ومنها ما يرتبط بالهجرة.
هذه التحديات كلها يمكن أن تجمع في عامل واحد هو الندرة، أي أنه أمام واقع الندرة لم تعد أوروبا قادرة على تمنيع أنظمة الحماية الاجتماعية، وأنها نتيجة لذلك، تسير في اتجاه المراجعة. في البدء جزئيا بوضع القيود وتكثيف أنظمة الرقابة كما يحدث اليوم في ألمانيا وفرنسا، ثم يؤول الأمر تدريجيا إلى المراجعة الكلية كما تم بالفعل في إسبانيا.
التفسير بعامل الندرة يبرره المسار والتحديات التي عرفتها دول أوروبا، ويمتلك وجاهته أكثر إذا استحضرنا أن عددا من الدول الأوربية، وبشكل خاص الدول الإسكندنافية، لا تزال تتمتع بأنظمة حماية اجتماعية قوية مثل السويد والدانمارك والنرويج.
لكن، مع وجاهة هذا التفسير، فالتقدير أن أوروبا التي كيفت اختيارها الاقتصادي بحسب التحديات التي واجهتها، لا يمكن اليوم أمام زوال مبررات هذا الاختيار أن تستمر في استصحاب أجوبة تتنافى مع طبيعة ونسق الاختيار الرأسمالي، فمنطق تطور الرأسمالية سيؤول بأوروبا إلى نفس المآل الذي تعرفه اليوم أمريكا، وستتجه الدولة في المدى المتوسط والبعيد إلى التخفف بشكل تدريجي من الالتزامات الاجتماعية، كما ستتجه إلى مراجعة تدخلها في توجيه الاقتصاد كما ستتخلى عن وظيفة السهر على إحداث التوازن.
في أمريكا بلغت الرأسمالية درجة كبيرة من التطور، بمقتضاه صار القطاع الخاص يمسك بكل شيء، وأصبح ممنوعا على الدولة أن تقيد المبادرة الحرة بدعوى وحجة إعادة التوازن فبالأحرى حماية الطبقات الفقيرة والهشة.
المنطق الذي تتطور به الرأسمالية في أوروبا هو نفسه الذي تطورت به في أمريكا، ولذلك، التقدير أن تطور الرساميل في أوروبا ستدفع لوبيات المال إلى الضغط على الدولة للتخلي عن أدوارها التدخلية أمام تغول المبادرة الحرة، كما ستدفعها إلى التخلي بشكل تدريجي ونهائي عن رعاية أنظمة الحماية الاجتماعية، وستكون الحجة جاهزة، وهي الكلفة.
في العالم العربي، الوصفة التي يقدمها صندوق النقد الدولي لتطوير اقتصادات الدول العربية وهو إلغاء أنظمة الدعم للمواد الأساسية والمحروقات، والتبرير الذي يقدم هو الكلفة بالإضافة إلى حجة أخرى هي أن هذا الدعم يستفيد منه الأغنياء أكثر من الفقراء ويرهق موازنة الدولة.
هذه الحجة نفسها ستبرر في الحالة الأوربية مراجعة أنظمة الحماية الاجتماعية، وبها سيستعيد النظام
الرأسمالي المبادرة، وسيتحرر من الاختيارات التي ليست من طبيعته، وستتجه أوروبا العجوز في نفس
المسار الأمريكي
غير أن أمريكا ليست هي أوروبا، فبعض الدول الأوربية مثل إسبانيا وفرنسا وبلجيكا يوجد فيها ملايين من المقيمين بها من أصول إفريقية وشمال إفريقية، وتوجد بها فجوة سحيقة بين الطبقات الغنية والطبقة الفقيرة، فضلا عن تهاوي الطبقات الوسطى.
الخلاصة، إنه بات من المؤكد بأن أوروبا ستتجه في المدى المتوسط إلى مراجعة جدرية لأنظمة الحماية الاجتماعية، وأنها ستساير تطور الرأسمالية المتوحشة، لكن كلفة ذلك قد تكون باهظة، وقد تكون سببا في عودة الحركات الاجتماعية، وقد يغذي ذلك بشكل أعمق نزعات الانفصال، كما أنه بظهور أزمات سياسية حادة في عدد من الدول لاسيما التي تعيش وضعا إثنيا معقدا مثل بلجيكا أو التي تتنامي فيها نزعات الانفصال مثل إسبانيا أو التي تتنامى فيها نزعات الهوية مثل فرنسا كما ستتعمق أكثر أزمة ما يعرف داخل عدد من الدول ألأوربية بتباينات الشمال والجنوب كإسبانيا وفرنسا وإيطاليا.