من منا لا يعرف المهاتما غاندي، رجل اللاعنف والمقاومة السلمية، والمناضل المحب للإنسانية والسلام.. لقد كنت مولعة بشخصيته منذ الصغر، وكان هو بمثابة نافذتي التي جعلتني أعشق الهند؛ بلد العجائب والأسرار، فنظاراته الدائرية وبشرته القمحية وابتسامته الهادئة على محياه، كانت هي الصورة التي احتفظت بها ضمن مقتنياتي الغالية، وقد اشتريتها من مكتبة بالقرب من منزلنا.
لقد كانت مقولته الشهيرة حول فلسطين، والتي حملتها إحدى افتتاحيات صحيفة الهاريغان عام 1938، هي مستودع ذاكرتنا ونظرتنا لهذا البلد العظيم، كان غاندي منسجماً مع مبادئه حين قال: "إن الدعوة إلى إنشاء وطن لليهود لا تعني الكثير بالنسبة لي، إذ إن فلسطين تنتمي للعرب تماماً كما تنتمي إنجلترا للإنجليز أو فرنسا للفرنسيين، ومن الخطأ فرض اليهود على العرب، وما يجري الآن في فلسطين لا علاقة له بأية منظومة أخلاقية".
لقد تبنى هذا الرجل العظيم - بحجم ما فيه من طيبة وإنسانية - قضيتنا وأخذها على محمل الجد، وقرر أن يناضل من أجلنا، ومن أجل مبادئه التي يؤمن بها، حيث رفض قرار تقسيم فلسطين.. وفي كثير من خطاباته، أكد على ضرورة الوقوف إلى جانب أهل فلسطين، وقد حمل من بعده الراية أول رئيس وزراء هندي؛ جواهر آل نهرو، والذي كان هو الآخر بدوره مناهضاً للاستعمار، ورأي في كفاح الفلسطينيين لإقامة وطنهم كفاحًا أصيلًا في سبيل تحقيق ذلك.. لهذا، تعد الهند من أهم الدول الداعمة - تاريخياً - لفلسطين ونضال الشعب الفلسطيني. فأين الهند اليوم من تلك المبادئ؟! وهل سوف نستعيد عمق علاقتنا كما كانت في السابق أم أن الحكومة الجديدة قد غلَّبت المصالح على المبادئ، وتعاملت مع قضيتنا كشيء أو أثر ينتمي لصفحات الماضي البعيد؟!!
الهند.. اعتراف وعلاقات حذرة بإسرائيل
اعترفت الهند بإسرائيل كأمر واقع في 18 أيلول/سبتمبر 1950، ولكنها ظلت تنأى زمناً طويلاً عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وذلك لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها رفض إسرائيل الوصول إلى تسوية عادلة مع العرب والفلسطينيين، ودور الهند القوي في حركة عدم الانحياز، والخشية من استفزاز الدول العربية القوية آنذاك وإثارة حفيظتها، نظراً لطبيعة الصراع والمواجهة بينها وبين الباكستان، والتي كانت تحظى بتعاطف عربي كبير، وأخيراً مراعاة الصوت الانتخابي الإسلامي في أوساط السكان المسلمين وهم بالملايين، إضافة إلى المصالح الاقتصادية التي تتصل بالنفط وتحويلات الهنود المغتربين.
في الواقع، إن الهند وآسيا بصفة عامة، لم تكن تشكل أهمية بالنسبة لإسرائيل قبل مطلع التسعينيات، ولكن التغيرات السياسية في المنطقة بعد ذلك أجبرت الهند أن تتخذ خطوة إلى الأمام، من ضمنها إقامة الصين علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهذا ما سهل فتح الطريق لإسرائيل لتلعب دوراً متنامياً في أسيا.. ومند ذلك الحين، ازدهرت علاقات الهند مع إسرائيل، حيث أصبحت الهند السوق الرئيسي للأسلحة في إسرائيل، وكذلك شريكاً اقتصادياً كبيراً.
بالرغم من كل هذا الانفتاح، إلا أنه لم يجرؤ أي زعيم هندي أن يتغنى بهذه العلاقة، الى ان وصل ناريندرا مودي إلى سدة الحكم، فهو يعتبر أول رئيس وزراء هندي يزور إسرائيل، وذلك للاحتفال بذكري 25 مرور سنة من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتمَّ توقيع العديد من الاتفاقات في مجالات مختلفة.
تطور العلاقات الهندية-الإسرائيلية
مرت العلاقات الهند بإسرائيل بثلاث مراحل، كانت كالتالي:
أولا؛ سياسة تقوم على مبادئ المهاتما غاندي وجواهر لآل نهرو، حيث كانا يبديان تعاطفاً مع العرب والفلسطينيين.
ثانياً؛ مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وبدء العلاقات الدبلوماسية الرسمية.
ثالثاً؛ جهود الهند لفصل العلاقات بين الهند وإسرائيل، والعلاقات بين الهند وفلسطين في النصف الثاني من عام 2000، وهو ما عكسته زيارة رئيس الوزراء الهندي الأخيرة لإسرائيل.
من الجدير ذكره، أن المرحلة الأولى لم تكن تتسم بالمثالية بل كانت مرحلة عملية، وكانت تعتبر سياسة واقعية تهدف إلى تهدئة الأقلية المسلمة الهائلة في الهند، من خلال دعم فلسطين؛ الشعب والقضية.. حيث عارض نهرو خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، ورفض الاستجابة لنداءات البرت انيشتاين، الذي حاول ان يقنعه للموافقة علي القرار.
لا شك بإن انحياز الهند مع فلسطين يعد انحيازاً مع الحق، لإيمانها - أيضاً - مع كل ما أوردناه من أسباب بعدالة القضية، كما أن حرب 1962 هي مثال على أن المرحلة كانت عملية.. فبناء على طلب نهرو، أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ بن غوريون، شحنات من الأسلحة والذخائر إلى الهند، وفي عام 1965 كانت الحرب الهندية الباكستانية، وفي عام 1972 كانت حرب بنغلاديش، حيث تلقت الهند مساعدة عسكرية من إسرائيل. وتظهر هذه الحالات النفوذ الدبلوماسي للهند مع إسرائيل.
أما المرحلة الثانية، فهي ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كانت الصين سبباً أساسياً وراء إنشاء الهند علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، خاصة بعد أن سبقت الصين وأقامت علاقات معها، الأمر الذي شجَّع الهند لاتخاذ نفس الخطوة، حيث كانت اسرائيل تزود الصين بالأسلحة والتكنولوجيا العسكرية.
بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تدعم الصين إسرائيل في المنظمات الدولية، مما غير مجري العلاقة بينهما.. وتحت ضغط الولايات المتحدة، اضطرت إسرائيل إلى وقف مبيعات الأسلحة إلى الصين.. واليوم، تبدو أمريكا هي العقبة الرئيسية أمام توسيع علاقات إسرائيل مع الصين، حيث إن هذه القيود الأمريكية لا تنطبق على الهند. وبشكل مختلف، فإن مستقبل العلاقات الإسرائيلية الصينية يعتمد إلى حد كبير على مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية. وتدرك بكين تماماً المأزق الإسرائيلي والتكلفة غير المتصورة التي سيتعين على إسرائيل دفعها لاستئناف العلاقات العسكرية مع الصين.
ما إن تراجعت علاقة إسرائيل بالصين، حتى أصبحت الهند هي الزبون التجاري الأول لإسرائيل في آسيا، وقد حافظت الهند على علاقتها المستترة بإسرائيل، وما زالت تتعامل معها بحذر؛ لأنها لا ترغب بأن يتغير مجري العلاقة إلى ما آلت عليه الصين. لذلك، في كثير من الأحيان كانت الهند تمتنع عن التصويت على القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة، والتي تؤكد على الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية.
في المرحلة الثالثة، اتسمت سياسة الهند نحو اسرائيل بالعملية؛ أي السياسة الواقعية القائمة على اعتبارات المصالح المتبادلة، حيث إنها تسعي نحو التقدم في أبحاث العلوم والتكنولوجيا والابتكارات ومجالات الدفاع، والزراعة والمياه والفضاء، والتي تعتبر إسرائيل رائدة فيها.
إن زيارة مودي الأولى لإسرائيل اسفرت عن عدة نتائج، منها قرار إنشاء صندوق الابتكار التكنولوجي الثنائي بقيمة 40 مليون دولار للبحوث في مجال التنمية الصناعية. وأيضا تمَّ توقيع اتفاقيات متعلقة بحفظ المياه وتطوير الزراعة والتعاون النووي والفضائي، وهي ما تشكل قفزة نوعية للهند.
إن مشهد مودي في إسرائيل دون أن يضع فلسطين ضمن برنامج زيارته، والذي استمر لمدة ثلاثة أيام، كان مؤشراً واضحاً إلى أن الهند وصلت إلى مرحلة من الثقة السياسية، حيث استطاعت أن تفصل بين إسرائيل وفلسطين، وهذا ما أكده بافان كابور سفير الهند لدي إسرائيل، حيث قال: "نشعر أننا قادرون على العمل معهم مستقلين عن بعضهم البعض، وزيارة رئيس الوزراء هي انعكاس لذلك".
إننا الفلسطينيين كنا نأمل في أن تلعب الهند دوراً في عملية السلام، ولكن تجاهل اللقاء بالرئيس محمود عباس وزيارة رام الله، ربما يتم النظر إليه وكأن الهند تخلت عن فرصتها في لعب دور في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. وهذه الخطوة قد تشكل لنا قلقاً، وكذلك للعديد من الهنود وخاصة المسلمين منهم، والذين يشعرون بأن الجري وراء المصالح الاقتصادية سيفقد الهند دورها في منظمة دول عدم الانحياز وبين الكثير من الدول العربية التي تربطها بالهند علاقات تجارية ضخمة.
إن تغليب السياسة على المبادئ سيؤثر على منظومة القيم التي كانت تحكم العلاقة الهندية بفلسطين في زمن المهاتما غاندي وجواهر آل نهرو.
إن هناك عوامل كثيرة عجلت بالتحول من سياسة التقارب إلى الحياد، منها اقامة الصين علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، فضلا عن انهيار الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي دفع الهند إلى إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، حيث أدركت الهند وقيادتها الجديدة - في السنوات الأخيرة - أن السياسة يمكن فصلها عن الاقتصاد، وتبنَّت سياسة "ضرب عصفورين بحجر"؛ أي إنه من الممكن أن تواصل الهند دعم العرب والفلسطينيين، وفي نفس الوقت تتمتع بعلاقات تكنولوجية واقتصادية جيدة مع إسرائيل. إن هناك سبباً آخر أسهم في هذا التحول باتجاه إسرائيل ألا وهو تفكك الشرق الأوسط، وانغماس الدول العربية في مشاكلها الداخلية، بالإضافة لحملات "الإسلاموفوبيا" التي صاحبت اتهام المسلمين بالتطرف والإرهاب، والتي أدت إلى تغيير صورة العرب في الهند بشكل عام، ورؤية اسرائيل كمثال للدولة الديمقراطية، التي يجب الاحتذاء بها، وعدم التفريط بالعلاقة معها.. وكما يقولون في الأمثال "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فقد أسهمت هذه العوامل مجتمعة في أن تصبح الهند سوقا اقتصادية وعسكرية ضخمة للموارد الإسرائيلية، بعد أن عانت من حالة القطيعة التي فرضت عليها في الثمانينيات، بحيث إنها لم تسمح لمواطنيها بدخول إسرائيل على جواز سفر هندي، خشية أن يغضب العرب أو يُستفز المسلمون.. اليوم للأسف، تمكنت إسرائيل من الوصول إلى نصف سكان العالم من خلال الهند!
ختاماً: مع تنامي تعاون الهند الاستراتيجي مع إسرائيل، وبالتزامن مع زيادة العلاقات التجارية والشراكة العسكرية، التي باتت واضحة في الآونة الأخيرة، فإنه من المحزن القول بأن العلاقات الإسرائيلية الهندية وصلت حقيقة إلى محطات متقدمة من أشكال الشراكة، وأصبحت العلاقة على أفضل أحوالها في الكثير من المجالات، أما قضيتنا الفلسطينية فمن الواضح أنه قد تمَّ وضعها علي الرفِّ، وعلينا نحن والعرب العمل على استرجاع الهند، وحثها علي احتضان قضيتنا من جديد، وهذا ما يستدعي صحوة وتدخلاً شعبياً لإنقاذ ما تبقى من حضور للقضية الفلسطينية في هذا البلد ذي الحضور الإسلامي الكبير، والذي يتجاوز تعدد المسلمين فيه 250 مليون نسمة.
إن رئيس الوزراء الهندي "مودي" سيقول لكل من يعترض على سياساته باتجاه الانفتاح مع إسرائيل، وخاصة من مسلمي الهند: "لن أكون ملكياً أكثر من الملك"، حيث قامت الكثير من الدول العربية والإسلامية بالتطبيع مع إسرائيل سراً وعلانية، ولم يعد هناك منهم – للأسف - من يخشى المجاهرة في ذلك!!
وأخيراً؛ تؤكد حسابات السياسة بأن المصالح تتغلب دائماً، وهي في اعتبار الحكومات هي الأهم والأقدر على الاستمرار من المبادئ.