تتساقط كثير من النخب السياسية والفكرية العربية أمام اختبار الديموقراطية بأشكالها المختلفة. فمنهم من يؤمن بشقها الليبرالي ويسقط شقها الانتخابي والعكس صحيح أيضا. وكثيرون للأسف يتغاضون عنها كلية لصالح الحفاظ على ما يسمى بكيان الدولة.
ومجال الحديث هنا لا يشمل الديكتاتوريات العربية أو أولئك الذين نذروا أنفسهم لخدمتها من علماء دين ومفكرين. الأمر يتعلق بفكرة غاية في الخطورة يروج لها البعض عن حسن أو سوء نية تتعلق بالحفاظ على شكل وطريقة إدارة هذا النظام العربي أو ذاك لأنه ممثل لإرادة الأمة وواسطة العقد الذي إذا ذهب انفرط. وهي فكرة تجد طريقها لدى كثير من الناس وسط الأزمات السياسة والمشاكل الطاحنة التي تضرب العديد من الأقطار العربية.
لقد كان حق تقرير المصير هو المبدأ وصك الشرعية الذي استندت إليه كل حركات التحرر من الاستعمار الأجنبي في العالم العربي. ويشمل هذا الأمر ألا يفرض على الشعوب وصاية أجنبية وأن تسيطر على ثرواتها ويحكمها أبناؤها. وكان هذا الحق ضمن مبادئ الرئيس الأميركي ويدرو ويلسون التي أعلنها عام 1918 لبناء أوروبا وعالم جديد بعد الحرب العالمية الأولى. تبع ذلك إنشاء عصبة الأمم ومضت الدول المحتلة رحلة كفاح جديدة نحو الاستقلال الكامل مرورا بالحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة التي نص ميثاقها الأساسي على هذا الحق.
وتعد القضية الفلسطينية هي أشهر حالات تغيب حق تقرير المصير لشعب لا يزال محتلا عسكريا وسياسيا. وهو الحق الراسخ الذي لا يستطيع أحد أن يماري فيه تاريخيا أو قانونيا أو دوليا أو إنسانيا بالنسبة للفلسطينيين.
المشكلة الآن أن معظم الأنظمة العربية تستند في شرعيتها إلى ميراث النضال التحرري من الاستعمار وأنها الحارسة لاستقلال الأوطان والدول. ويذهب بعضها بعيدا ويستند كذلك لدعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. والأزمة أن كل هؤلاء يغفلون أن حق تقرير مصير شعوبهم غائب تماما وأن هذه الشعوب لم تقل كلمتها بشكل مباشر أو غير مباشر حتى الآن في مصيرها الذي تتلاعب به هذه الأنظمة يمنة ويسرة. فتارة تورط شعوبها في حروب خاسرة وتارة تبدد أموال ثرواتها فيما لا طائل منه.
وحق تقرير المصير هو بيت القصيد في رضاء الناس من عدمه عن هذا النظام أو ذاك وليس ما يروج له ادعاء بقدرته على حماية الحدود.
إن الانتخابات النزيهة النادرة التي مر بها العالم العربي خلال ستة عقود مضت لا تتجاوز أعدادها أصابع اليد الواحدة. وكلها تقريبا إما تم الانقلاب على نتائجها كما حدث في مصر بعد ثورة يناير أو الجزائر في التسعينات أو تمت محاصرتها والضغط عليها داخليا وخارجيا كما حدث في تونس وفلسطين. وهنا نستثني التجارب الانتخابية التي تجرى في ظل أنظمة ملكية وراثية لأنها وإن كانت أفضل حالا من بقية الدول، إلا أنها لا تزال تعمل تحت سقف سياسي معروف ووفق صلاحيات سياسية وإدارية محدودة.
وكل هذه الانتخابات والاستفتاءات، حتى النزيهة منها، هي إجراءات غير طبيعية في حالتنا العربية. فالانتخابات في معظم الدول المحترمة هي طريقة قياس ضمن لعبة متفق عليها بداية بين الجميع. أما في العالم العربي فلم يتم استفتاء الناس بنزاهة ابتداء عن قواعد الحكم وآلية تداول السلطة أصلا كي يختاروا أن يحكموا بملكيات دستورية أو جمهوريات برلمانية أو رئاسية...إلخ بعد ذلك يمكن أن تكون الانتخابات أداة قياس طبيعية لرضاء الناس عن هذه الحكومة أو ذاك التيار.
وربما يفسر هذا جزء من الصراع الداخلي الذي تخوضه بعض الدول في بواكير التحول الديموقراطي العربي، وهي أن الجميع يغرق في تفاصيل المنافسة قبل أن يتم الاتفاق الواضح حول قواعد هذه المنافسة.
سيظل استقلال الدول العربية منقوصا من دون حق شعوبها الكامل في تقرير المصير الذي تمتعت به عشرات من الدول حول العالم. وهو حق لا يتأتى من دون ديموقراطية كاملة تشمل انتخابات نزيهة ورقابة برلمانية واستقلالا حقيقيا للقضاء والاستفادة من الثروات للمصلحة القومية.