في كثير من خطبه الأخيرة، تبنى الملك
محمد السادس مفردات وأفكارا ما كان ممكنا تصور صدورها إلا عن "معارض" سياسي لتدبير الشأن العام في البلاد.
انتقادات الملك و"غضباته" تركزت بالأساس على كيفية اشتغال الجهاز الإداري بالمملكة، وطغيان الصراع الحزبي على الحياة السياسية
المغربية التي سعى أقطابها إلى الاختباء وراء "محدودية السلطات"، أو الاحتماء بالمربع الملكي باعتباره المؤثر الفعلي في تسيير دفة الحكم في البلاد.
لا يخلو الأمر من "واقعية" في التشخيص، لكنه في المقابل أمر واقع لا يمكن نكران كونه السمكة الأساسية لطريقة تدبير علاقات الحكم والفعل السياسي بالمملكة.
لكن الأكيد، أن عقم الطبقة السياسية المغربية، التي تربت على مدار عقود على "الريع الانتخابي"، وفشلها في استقطاب الكفاءات وتأطير الجماهير وحماية "استقلالية" قرارها الحزبي، جعلها في موقف انتظار دائم لإشارات القصر ومبادراته للمسارعة إلى المباركة والتبني.
ويا ليتها سعت، ولو لمرة واحدة، إلى ترجمة مغزى الإشارات والمبادرة الفعلية كل من موقعه وضمن ما يمنحه الدستور من هامش كبير للإنجاز. فطام الطبقة الحزبية المغربية عن "ريع" القصر يحتاج لأكثر من ثورة في الخطاب أوصدمة في التحليل.
قبل ثلاث سنوات، وخلال برنامج تلفزيوني على القناة المغربية الثانية، لم يجد "زعيم" حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حرجا في أن يعلنها أمام الملأ أن هذه أيضا "معارضة صاحب الجلالة" في مشهد سريالي ما كان مبشرا بالخير.
يومها، رُفع الحرج عن رئيس الحكومة عبد الإله
بنكيران، الذي قضى سنوات ولايته الحكومية بين رئاسة الحكومة ولعب دور المعارضة في الآن ذاته، وتأكد بالملموس أن جلباب دستور 2011 واسع بالفعل على الطبقة السياسية الوطنية، بما يهدد التجربة المغربية في الصميم.
فعندما يصير الفارق بين الأغلبية والمعارضة صفرا على اليسار، فإن ذلك تجل من تجليات الدولة "العقيمة" التي تجعل المغرب مهددا بأقسى من "السكتة القلبية" التي أوصلت جزءا من هذا اليسار إلى الحكومة قبل عقدين من الزمان.
شكل وصول حزب العدالة والتنمية المغربي، كما كثير من الحركات المصنفة إسلامية، إلى المشاركة في تسيير الشأن العام بعد "ثورات" الربيع العربي، مناسبة مثلى لإنضاج تجربة التداول السلمي على السلطة في مختلف البلدان المعنية بـ"التغيير".
وكان أن بدت التجربة المغربية الأقرب إلى تحقيق نموذج قابل للتصدير. لكن الحزب الأغلبي اختار وقتها، كما سلفه الاتحاد الاشتراكي، التحجج بالدولة "العميقة" المحاربة للإصلاح مقابل "جيوب مقاومة التغيير" الاتحادية.
وبدل السعي للمواجهة، إن صدقت تلك المبررات، اختار عبد الإله بنكيران لغة "عفا الله عما سلف" في تناغم مع حديث عبد الرحمان اليوسفي عن "عدم السعي لمحاربة الساحرات".
لكن الواضح من خلال التجربتين أن أكبر خطر يتهدد المغرب هو عقم الأحزاب السياسية عن ابتداع سياسات تدبيرية بديلة تقطع مع القوالب الجاهزة الممثلة في اللجوء إلى الاقتراض الخارجي والداخلي أو الرفع من مستتويات الأسعار والسعي إلى فرض المزيد من الضرائب على الطبقات الأضعف والأهش.
صارت "الدولة العميقة" شماعة تعلق عليها الحكومات عجزها على تحقيق الوعود الانتخابية، سعيا لنقل المعركة من مجال التنمية إلى متاهات الصراع الحزبي الضيق مع بعض مكونات المعارضة، التي لم تسلم هي الأخرى من استعمال ذات المصطلح في المواجهة وكأنها لعبة أطفال تناسوا خلالها، عن علم أو جهل، أنها مصلحة الوطن يتلاعب بها على مرأى ومسمع العالمين.
الدولة العميقة، إن وجدت، ليست عيبا أو تهديدا للبلد، بل هي عماد البناء الذي يؤشر على تماسك الدولة وأجهزتها الموضوعة دستوريا رهن إشارة الجهاز التنفيذي لتحقيق مصالح المواطنين.
وفي مقابل هذه الدولة العميقة، دولة "عقيمة" يسيطر فيها بعض "الزعماء" على الوزارة والحزب والفريق البرلماني والنقابة ومختلف القطاعات الموازية. وفي نفس الدولة تخصص كوتا للشباب والنساء في عملية "تجميل" للمؤسسات ورفعا للحرج على "ذكورية حزبية" مزعومة.
وفيها أيضا نجد الوالد والزوجة والأبناء والأعمام والأخوال وذرياتهم متجاورين داخل المؤسسة التشريعية، دونا عن بقية "المناضلين" ومريدي الأحزاب، لا فرق في ذلك بين يسار يدعي التقدمية أو يمين يوصف بالرجعية.
وفيها أيضا تتناوب فلتات الزمان على الوزارات والمؤسسات العمومية والسفارات تتويجا للفاشلين وتغييبا كليا لمبادئ الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، بل إن البعض منهم يجمع بين الرئاسات والمسؤوليات، وكأن العقم أصاب نساء الوطن وحال بينهن وبين إنجاب الكوادر والأطر وهم الموزعون في بقاع الدنيا يتحملون المسؤوليات الجسام هنا وهناك وفي كل مكان.
في الدولة "العقيمة"، تحارب الدولة التنظيمات الحزبية "المتجذرة" وتسمح لـ"أشباه" الأحزاب أن تنمو في كنفها وتحصد مقاعد التمثيلية الانتخابية بالجملة والتقسيط. وفيها ينتظر الساسة و"صناع القرار" والمحللين "الاستراتيجيين" خطاب الملك ليلوكوا نفس الكلمات ويسرحوا في التحليلات دونما قيمة إضافية أو تحليل رصين أو بحث عن المخرجات.
في الدولة ذاتها، يتحول مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة إلى مجرد شعار للاستهلاك المحلي والخارجي أوقات الأزمات، وفيها يصير التشخيص "هواية" الحكام بدل الانكباب على الفعل الميداني، في إطار الاختصاصات الدستورية، لمعالجة الاختلالات.
في الدولة "العقيمة" تختفي الحدود المرسومة بين الحكم والمعارضة، ويصبح تكريس "الحكم الأحادي" ملاذا شرعيا وبديلا مقبولا. عقم الدولة يجعل الحكم في مواجهة المواطنين دون وسطاء ما يحول مفهوم "المقاربة الأمنية" أمرا واقعا، أقرب ما يكون للتحقق، بما ينذر بتآكل في الشرعية رغم نوايا
الإصلاح المعلنة وحسنها.
في إحدى حواراته، صرح الملك الراحل الحسن الثاني أنه "لو لم تكن هناك من معارضة في هذا البلد لخلقتها".
ولعل وجود تلك المعارضة كان واحدا من أسباب "مناعة" جسم الدولة المغربية الموعود بأن تنخره الجراثيم ويعتريه السقم بعد تجريب قطع الغيار المتوفرة في غياب بديل متجدد في الأفق يقينا شرور الدولة "العقيمة" البادية للعيان.