ليس في الإمكان التصفيق لما قام به «حزب الله» في جرود عرسال، لأسباب عدة لم تستوعبها عقول بعض السذّج الذين يميّزون، للأسف، بين إرهاب وإرهاب. هؤلاء يفرّقون بين إرهاب سنّي وإرهاب شيعي. لا يدركون معنى أن لا مستقبل للبنان ولأبنائه من دون تقوية مؤسسات الدولة وليس إيجاد بدائل منها...
يبدو أنّ هناك تعاميا لدى كثيرين في البلد عن أنّ الهدف من عملية عسكرية من هذا النوع تنفّذها مليشيا مذهبية لا ولاء لها للبنان، مهما رفعت العلم اللبناني عاليا، يندرج في إطار المشروع التوسّعي الإيراني ولا شيء آخر غير ذلك على الإطلاق. فالمعادلة الإيرانية في غاية البساطة، وذلك بغض النظر عن كلام الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله وإصراره على نفي الهدف الإقليمي لعملية جرود عرسال. إنّها عملية تصبّ في نهاية المطاف في إطار التبادل السكّاني في سوريا من منطلق مذهبي ليس إلّا.
إنّها أيضا عملية تقوم على استخدام المليشيات المذهبية من أجل تحقيق أهداف سياسية واضحة
كلّ الوضوح. في طليعة هذه الأهداف الانتقام من كلّ مدينة عربية في منطقة المشرق إرضاء لإيران وإشباعا لرغبتها في تفتيت العالم العربي، أو ما بقي منه، بعدما سلّمها «الشيطان الأكبر» الأميركي العراق على صحن من فضّة في العام 2003.
دفعت بيروت، كمدينة عربية، ثمنا غاليا بسبب صمودها في وجه المشروع الإيراني الذي قام في ثمانينات القرن الماضي على تغيير طبيعة العاصمة اللبنانية وتركيبتها الديموغرافية. هذا ما يفترض أن يتذكّره اللبنانيون دائما. في كلّ يوم يمرّ يتبيّن أكثر لماذا اغتيل الرئيس رفيق الحريري الذي أعاد بناء المدينة، بعدما عرف كيف يستغلّ ظروفا إقليمية معيّنة مطلع تسعينات القرن الماضي. دفع رفيق الحريري، من بين ما دفعه، ثمن إعادته الحياة إلى بيروت بكلّ أبنائها، في حين كان مطلوبا في كلّ وقت أن تكون بيروت مدينة بائسة تشبه ضاحية من ضواحي طهران أو البصرة في أحسن الأحوال.
من الموصل إلى جرود عرسال، يبدو الهدف الإيراني واحدا ويتمثل في تدمير المدن العربية وحصول التبادل السكاني. تدمير المدن والتبادل السكاني وجهان لعملة واحدة. حيث هناك مدينة عربية في الطريق من طهران إلى بيروت، يجب العمل على أن لا يكون هناك حجر على حجر فيها. وحيث لا مدن عربية يمكن تدميرها مثل دمشق، لا بأس في تغيير طبيعة هذه المدن ديموغرافيا.
بعد تدمير حلب وحمص وحماة، لا بدّ من تغيير جذري لطبيعة دمشق، تماما كما حصل تغيير لطبيعة بغداد التي تحوّلت إلى مدينة لا تشبه المدن بمقدار ما تشبه ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.
يدعو هذا الإطار العام لعملية جرد عرسال إلى التفكير مليّا في مخاطرها على مستقبل لبنان وعلى مؤسسات الدولة التي تحاول التقاط أنفاسها في ظل الضغوط الشديدة التي تتعرض لها، وهي ضغوط لا هدف لها سوى تحويل لبنان إلى مستعمرة إيرانية.
حصلت عملية جرود عرسال بمجرد الانتهاء من تدمير الموصل. تحت ستار إخراج «داعش» من تلك المدينة العراقية العريقة قضي على الموصل. يصعب أن تقوم قيامة للمدينة في يوم من الأيّام. شرّد «الحشد الشعبي» وقصف سلاح الجو الأميركي أهلها ولم يعد في استطاعتهم العودة إلى بيوتهم المهدّمة. هناك أحياء عدّة في المدينة لم تعد قابلة للسكان فيما غادر مليون موصلي المدينة...
من البديهي أن يتعلّم اللبنانيون شيئا من الذي يجري في المنطقة. لعلّ أوّل ما يُفترض بهم تعلّمه هو أن لا مصلحة أصلا للبلد في أن ينخرط أحد أحزابه، حتّى لو كان هذا الحزب مجرّد لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، في الحرب على الشعب السوري. الدخول في حروب من هذا النوع هو دخول في لعبة أكبر بكثير من بلد صغير مثل لبنان.
أكثر من ذلك، إن مثل هذا الدخول لا يمكن إلّا أن يرتدّ على اللبنانيين في يوم من الأيّام. على العكس من ذلك، يظلّ الابتعاد عن أيّ عملية عسكرية خارج الأراضي اللبنانية أفضل وسيلة لحماية البلد في المدى الطويل وذلك بعيد كلّ البعد عن نظرية «حلف الأقلّيات» المغرية لبعض السذّج الذين يعتقدون أن النظام السوري ما زال حيّا يرزق وأنّ بشّار الأسد لا يزال يمتلك شرعية ما، علما أنّه لم تكن لديه أيّ شرعية من أيّ نوع في أيّ يوم من الأيّام.
من حقّ لبنان حماية نفسه بالطبع ولكن في ظلّ قرار يتخذه مجلس الوزراء وبالاعتماد على الجيش اللبناني الذي ربّما يدخل في مواجهة مع «داعش» قريبا. كلّ ما عدا ذلك دخول في متاهات يبدو البلد في غنى عنها، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بتبادل سكّاني في سوريا، على غرار ما حصل قبل أسابيع قليلة، أي قبل عملية جرود عرسال، انطلاقا من إطلاق صيادين قطريين كانوا محتجزين لدى إحدى المليشيات المذهبية العراقية منذ أواخر العام 2015 في منطقة السماوة العراقية غير البعيدة عن البصرة.
ما بدأ بخطف الصيادين القطريين في الأراضي العراقية، انتهى بصفقة كان «حزب الله» و«جبهة النصرة» طرفين فيها. شملت تلك الصفقة إطلاق أسرى للحزب لدى «النصرة» وتبادل سكاني بين بلدتي مضايا والزبداني السنيتين الواقعتين قرب دمشق والفوعا وكفريا الشيعيتين القريبتين من حلب. أين مصلحة لبنان في كلّ ذلك؟ هل هذه حرب على الإرهاب أم تبادل خدمات بين طرفين يمارسان كلّ أنواع الإرهاب، بما في ذلك تسهيل التبادل السكاني في سوريا وكأن مستقبل سوريا سيحدده الذين يمارسون مثل هذا النوع من العمليات؟
من الموصل إلى جرود عرسال، تدور لعبة قذرة. كلّما ابتعد لبنان عن هذه اللعبة التي تدخل في سياق نظرية «حلف الأقليات» التي ولدت ميتة.. استطاع حماية نفسه والمحافظة على شبه الاستقرار الذي ينعم به. فذلك أقصى ما يمكن أن يصل إليه حاليا في هذه الظروف الإقليمية بالغة التعقيد.