في البداية، لا بدّ أن نسجّل حقيقة لا يمكن الجدال فيها، وهي أنّ المقدسيين هم المنتصرون في هذه المعركة، فقد خاضوها بإصرار على الانتصار مهما كلّف الثمن، دون تنازل، وكان لهم ما أرادوا.
صمود المقدسيين بمختلف فئاتهم دون استثناء كان الدرع الواقية للقدس والمقدسات، والتاريخ شاهد على ذلك، فمنذ الاحتلال الإسرائيلي للمدينة المقدسة في العام 1967 وحتى اليوم كانوا حماة للمدينة.
أبناء القدس لهم آراء متباينة سياسيا أو اجتماعيا، حتى في علاقاتهم مع الاحتلال أو ما نتج عن اتفاقيات أوسلو... ولكنهم كلمة واحدة صلبة غير قابلة للانكسار عندما يتعلق الأمر بالمسجد الأقصى.
بالنسبة للشعب الفلسطيني المفارقة واضحة، فكلما حاول البعض الادعاء أن الشعب تعب وغير قادر على المواصلة وتم استنزافه، فإنه يعود من رماده كالعنقاء قويا وقادرا على المواجهة.
الحقيقة أن الفلسطيني قد لا يهتم كثيرا في لحظة ما بدعوات الأحزاب السياسية أو القوى للمشاركة بفعالية نضالية حول قضية ما، ففي كثير من الحالات وجدنا أن مسيرات أو مواجهات أو اعتصامات لا يتعدّى المشاركون فيها بضع عشرات على الرغم من الدعوات المكثفة، ربما لعدم وجود قناعة شخصية بهذه المشاركة. ولكن عندما يتعلق الأمر بالقدس والمقدسات، فإن الفلسطيني يهب دون تردد أو تأخير في المشاركة والمواجهة مهما كلّفه ذلك من ثمن.
ولذلك جندت معركة الأقصى الشعب الفلسطيني كله، وأذابت الخلافات جميعها، حتى الانقسام لم يعد له وجود في هذه المعركة.. والاحتلال لم يتعلّم الدرس سابقا، وهو أن الأقصى والمقدسات برميل بارود متفجِّر.. وأن الأقصى لا يمكن أن تكون هناك مساومات عليه.
معركة الأقصى تركت، أيضا، حربا داخلية إسرائيلية، الكل يتهم الكل، من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى وزراء حكومته جميعا، فاليوم نتنياهو متهم بأنه هو الذي قرّر نصب البوابات الإلكترونية استجابة لنصيحة، دون ذكر اسم صاحبها، وركب رأسه، الذي تحطّم في النهاية.
وزراء اليمين في شبه متاهة، أيضا؛ لأنهم في النهاية اضطروا للمصادقة على إزالة البوابات عندما تأكدوا أن الثمن باهظ، ولا يمكن أن تسير الأمور كما توقعوها، أي فرض سياسة الأمر الواقع على منطقة الحرم، من خلال إكمال حلقة السيطرة عليه، ومن ثم إنجاز مخطط التهويد الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.
النقاشات داخل المستوى الأمني ملتهبة، وتحمّل عددا محدودا من قيادة الشرطة الإسرائيلية المسؤولية عن «المهزلة» التي حدثت خلال الأسبوعين الماضيين.
من جهتها تحاول الشرطة الإسرائيلية وبعض قيادتها التنصُّل. ولكن المستغرب هو حالة الضعف غير المسبوقة لليسار الإسرائيلي، الذي لم يكن له أي تأثير أو وجود في هذه الأزمة.
على الصعيد العربي، أظهرت معركة الأقصى أنه لا يمكن للأنظمة العربية أن تتهرب من مسؤوليتها، لأن الثمن أكبر بكثير مما تتوقع، فالمسيرات والتظاهرات التي انطلقت في كثير من المدن العربية والإسلامية، أكدت أن صمت البعض سينعكس عليهم سلبا... بل أضاءت في وجوههم خطرا داهما... فاضطرت كثير من الأنظمة إلى تغيير مواقفها في الأيام الأخيرة وبدأت تمارس ضغطا بشكل مباشر أو غير مباشر على دولة الاحتلال... وأصدرت البيانات التي توضح موقفها... وكأنها تخاطب شعوبها مؤكدة الوقوف إلى جانبها في قضية المقدسات.
النقطة الأخيرة... الكل يدَّعي البطولة في هذه المعركة، ويبدو أن كل فصيل لا يتعدَّى عدد كوادره أصابع اليد أصدر بيانا اعتبر نفسه بطلا، وكل حزب سياسي اعتبر نفسه صاحب الانتصار، والحقيقة أن الشعب الفلسطيني دون مسميات هو صاحب الانتصار الحقيقي... وهو الذي يصنع المعجزات دائما.
الأيام الفلسطينية