دخلت فرنسا "ماكرون" على الأزمة الليبية من بوابة جديدة، ففرنسا "هولاند" مثلت خروجا عن الإجماع أو شبه الإجماع الأوروبي في توصيف الأزمة الليبية ومقاربة احتوائها. فقد تأكد أن الموقف الأوروبي بعد توقيع الاتفاق السياسي في ديسمبر 2015 يتمحور حول اعتبار ما يجري من قتال واصطفاف في الشرق والغرب هو صراع سياسي وأنه ينبغي عدم التورط فيه والوقوف مسافة واحدة من طرفي الصراع. فرنسا في عهد هولاند تورطت في النزاع المسلح وقدمت دعما عسكريا مباشرا للجيش الذي يقوده حفتر، وكان سقوط الطائرة التي تحمل فرنسيين في بنغازي بعد توقيع الاتفاق السياسي وتبلور موقف أوروبي حياله دليلا على الموقف الفرنسي المخالف.
بإشراف فرنسا على تنظيم لقاء "سيل سان كلو" الأسبوع الماضي والذي جمع السراج وحفتر فكأنها تقول إنها في اتجاه جديد من الأزمة الليبية وأنها تراهن على الوفاق وتنهي تورطها العسكري في ليبيا، خاصة وأن المبادئ العشرة التي تم الإعلان عنها في سيل سان كلو تتضمن دعوة صريحة لوقف القتال.
أيضا للدخول الفرنسي الجديد على الأزمة الليبية دافع آخر يتعلق بالمنافسة الفرنسية الإيطالية على ليبيا، فروما نجحت في المراهنة على الطرف الذي أصبح منذ ما يقرب من عامين ممثلا للسلطة الشرعية في نظر المجتمع الدولي فيما مالت باريس إلى الطرف الرافض لاتفاق الصخيرات وفي مقدمتهم خليفة حفتر، وبالترتيب لجمع حفتر مع السراج ثم إدماج الأول في منظومة سياسية يمكن أن يكون من مخرجاتها وصوله إلى قمة هرم السلطة السياسية بطريق سلمي وهو الانتخابات تكون فرنسا قد حققت هدفها من دعم حفتر دون مصادمة الإجماع الدولي والأوروبي.
بالنسبة للأطراف الليبية فإن لكل منهما دوافعه للقدوم إلى باريس والتوقيع على المبادئ العشرة. رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج يأمل في أن يعزز وضعه على مستوى البلاد بعد أن نجح نسبيا في فرض وجوده في العاصمة من خلال الترتيبات السياسية الجديدة، وسيستفيد معنويا في حال انتهت هذه المرحلة بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وذلك بعد الجمود والصرع السياسي والتردي الاقتصادي الذي شهدته البلاد منذ منتصف 2014، وقد يكون ذلك دافعا قويا لترشحه لكرسي الرئاسة، وفي حال حالت النزاعات دون إجراء الانتخابات فإنه يظل ممثل الشرعية التي لا خيار عن التمديد لها.
بالنسبة لخليفة حفتر، فمعلوم أن تطلعه كان ولا يزال الحكم والتربع على كرسيه في طرابلس، وكان رهانه لتحقيق ذلك على الحسم العسكري الذي ثبت فشله وتراكمت عوامل عدة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي في إسقاطه، وبالتالي صار البديل هو تحريك المسار السلمي للوصول إلى نفس الغاية، وقد تضمنت المبادئ العشرة الدعوة لإجراء انتخابات رئاسية يبدو أن حفتر لا يرى له منافسا حقيقا للفوز بها.
ردود الفعل حول مخرجات اللقاء تنوعت بين مؤيد، ومعارض، ومتردد عاجز عن وضع الاجتماع في سياق التدافع السياسي الراهن.
بالنسبة للمنطقة الشرقية فمن المؤكد أن وقع اللقاء ومخرجاته لم تكن إيجابية بالنسبة لعدد من المجاميع السياسية والاجتماعية خاصة وأن حفتر قاد حملة قوية مناهضة للاتفاق وربط العمل العسكري الذي قاده بموقفه المتشدد من المجلس الرئاسي ورئيسه السراج، غير أن نفوذ حفتر يمنع من يتبلور موقف سياسي أو اجتماعي رافض لمخرجات الاجتماع.
الجديد في المنطقة الغربية هو الموقف الذي عبر من خلاله حزب العدالة والبناء عن رفضه للقاء سيل سان كلو، والذي أثار استغراب وحتى شماتة قطاع من المعارضين للاتفاق السياسي والذين كان يضمهم خندق واحد مع العدالة والبناء في فترة إطلاق عملية فجر ليبيا. غير أن تصريحات لبعض المبرزين في الحزب جاءت خلافا لمضمون البيان الذي تلقفته منابر إعلامية محلية وعربية وجعلته مادة مهمة في تناول مخرجات لقاء سيل سان كلو، الأمر الذي جعل موقف الحزب ضبابيا تطلب إصدار بيان مؤيد لكنه لم يكن كافيا لإزالة اللبس القائم.
تبقى الإشارة إلى عودة المرشح السابق لرئاسة الوزراء، رجل الأعمال المثار حوله كثير من الجدل، عبد الباسط اقطيط، إلى التدافع السياسي، حيث أعطى انطباعا أنه رافض لمخرجات لقاء السراج وحفتر ويدعو إلى خارطة طريق مختلفة ويحث أنصاره ومن قبلوا بتصريحاته الأخيرة إلى التعبئة والدعم عبر التجمهر والتجمعات المفتوحة، وهو سير ضد التيار الدولي الذي يبدو أنه يتجه إلى دعم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع إجرائها في الربيع القادم، غير أن لدى قطيط فرصة في أن يستفيد من التفاعل مع عودته للمشهد السياسي في سباق الرئاسة القادم.