كلما صدحت الحناجز وارتفعت الأصوات منددة بالظلم الواقع على المواطن المصري منذ انقلاب الثالث من يوليو على إثر "سياسات" طبيب الفلاسفة، تنبري أبواق النظام الانقلابي وحوارييه إلى الدفاع عن "الإنجازات" التي جنبت مصر مصير بعض من دول الجوار. قبلها يكون عبد الفتاح السيسي قد مارس هوايته في تأنيب المصريين وتحميلهم سوء ما يعيشونه بعد أن "يعايرهم" بأنهم هم من نادوه لتحمل المسؤولية وإنقاذ البلاد. لسان حاله لا يختلف عن لسان اللواء المتقاعد فؤاد بسيوني في فيلم (الجزيرة – 2007) للمخرج شريف عرفة.
في غرفته بالمستشفى ينام اللواء المتقاعد فؤاد بسيوني ممددا على سرير المرض مصابا بداء السرطان. يدخل عليه ابنه الضابط طارق.
الضابط طارق: أنا جاي أسألك اعمل إيه؟ أتصرف زي ما ربتني طول عمرك واكشف الحقيقة واشوه أقرب الناس ليا ولا أتصرف زي ما اللواء فؤاد بسيوني بيتصرف؟
اللواء فؤاد (ينزع كمامة الأوكسجين عن فمه ويستوي في جلسته): انت جاي تتهمني؟ انت ايش فهمك أنت؟ ايلي عملته ده هو الصح ولو رجع بيا الزمن حاعمله تاني وتالت ورابع.
الضابط طارق: صح ازاي؟
اللواء فؤاد: متعمليش زي ايلي بيدافعوا على حقوق الانسان والكلام الفاضي ده وبيهاجموا الضرب في اقسام البوليس وكلهم أول ما الخدامة تسرق منهم حاجة يدوروا وشهم الناحية الثانية ويقولو عاوزين حاجتنا.. اعملوا فيها ايلي انتم عاوزينه بس حاجتنا ترجع لينا.. خلصنا على الإرهاب.. السياحة شدت حيلها.. الصعيد محدش بيسمع له صوت..
الضابط طارق: الصعيد محدش بيسمع له صوت دلوقتي علشان انتم دفنتوه.
اللواء فؤاد: إحنا دفنا المجرمين.. والإرهابيين نظفنا منهم البلد.. (يحاول اللواء إشعال سيجارة) يا ابني أنا الأيام ايلي فضلالي قليلة وحأقابل ربنا بس حأقابله وأنا مش خايف لأني عارف أن ايلي عملته صح.
الضابط طارق: (يأخذ منه السيجارة) انا ابنك وبقولك لازم من دلوقتي تبتدي تخاف.. لازم.
في الواقع، صار الإرهاب طقسا يوميا تعيش البلد على وقعه ومعه أحكام الإعدام المجانية وحالات الإخفاء القسري والتعذيب حتى الموت وغيرها من مظاهر اللااستقرار التي تكاد تصل مستوى الحرب الأهلية، طوق النجاة الوحيد للعسكر لبسط أياديهم على البلاد والعباد. أما السياحة فرغم تنازلات الانتقاص من السيادة للروس بالمطارات، وإعلانات استجداء السائح الخليجي، وحملات "الحج" إلى شرم الشيخ تحت أضواء الكاميرات وغيرها من المبادرات التي وصلت حد تقديم جبل الحلال بديلا عن الحج إلى بيت الله الحرام، فالسياحة لم تنتعش كما يدعي اللواء بسيوني/المشير السيسي. الصعيد هو الوحيد الذي لم يعد يسمع له صوت كما حال أرض الكنانة كلها التي تبدو بلا صوت أو تكاد تحت الحكم العسكري.
تجريف الحياة السياسية وسجن المعارضين واضطرار آخرين للمنفى، وتصفية النشطاء وانحسار تأثير بعض "الفقاعات" الثورية، وتنحية بعض الأصوات الإعلامية "النشاز" عن عزف سيمفونية أحمد موسى وأماني الخياط، وخيانات بعض "الرموز"... كلها مظاهر انحسار للمد "الثوري" جعلت النظام الانقلابي، مدعوما بمحيط إقليمي ودولي يتخذ من محاربة الإرهاب ستارا لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ينتقل للسرعة القصوى في تصفية تركة ما بعد الخامس والعشرين من يناير مسابقا الزمن وفق أجندات يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي. هكذا تصبح شبه الجزيرة "الشقيقة"، وهي دولة ذات سيادة وحضور مؤثر، مع "الجزيرة" ذات الإشعاع الإعلامي الدولي، في نفس الكفة لدى نظام انقلاب يوليو مع جزيرتي تيران وصنافير المقدمتان مهرا لصفقة قرن يتحدث الجميع عنها دون أن تظهر ملامحها حتى الآن، وشبه جزيرة سيناء المنفلتة من أية سيطرة نظامية حقيقية على الأرض، وبقية الجزر النيلية "المستضعفة". مشكلة نظام عبد الفتاح السيسي وأركانه أنه لم يفهم بعد معنى للجزر وروحها.
يقوم الضابط طارق، الملتحق حديثا بالصعيد، بجولة تفقدية يتعرف من خلالها على مرافق "الجزيرة" رفقة المخبر علام.
الضابط طارق: هما ليه سموها الجزيرة مع أنها مش جزيرة؟ الميه قدامها والجبل وراها.
المخبر علام: اسمها الجزيرة علشان بدل متحوطها الميه من كل حته أهلها محوطين عليها. الجزيرة أصغر حته في المديرية وأقوى حته. مفيش سر يطلع منها أبدا ومفيش غريب يقدر يعيش فيها.
وكما قال منصور الحفني في مشهد اعتقاله للضابط رشدي وهدان، فالحقيقة تبقى ساطعة تأبى الإخفاء لأن "الحقيقة بتموت عندكم بس يا رشدي بيه. لكن عندينا احنا لأ. عارف ليه؟ لأن جدي قايلها لأبوي، وأبوي قالها لي وأنا قلتها لولدي وولدي حيقولها لولده.." والتتمة في حوار جمع علي الحفني بابنه منصور بعد أن عينه "كبيرا" على الجزيرة بدلا عن عمه حسن وكبار العائلات الأخرى.
الأب: لا يا ولدي مش أنا ايلي عايزك تكون كبير.. انت اتكتب عليك تكون الكبير. أنا خلاص بموت يا منصور.
منصور الحفني: تموت؟ تموت كيف؟
الأب: بموت زي الناس ما بتموت. عيان ومليش علاج وبعد شوية نفسي يتقطع وتحفرو الحفرة وتنزلوني فيها.
منصور الحفني: نروح لحكيم.. اثنين.. نسفروك برا البلد.
الأب: لما زيي يقولك خلاص يا منصور يبقى خلاص.. مفيش حاجة تتعمل.. أنا أكثر واحد في الدنيا دي عايز يعيش. جنة ايلي زينا في الدنيا وبس وايلي جاي حسابه عسير لو ينفع أأجله حأجله.. (يلمح دموعا في عين منصور) الكبير ميحبش حاجة ولا حد للدرجة ايلي تبكيه عليه.. انت لازم تكون زي الجزيرة دي، أقرب حد ليك يكون ع البر الثاني.. أنا ايلي فاضل لي مش كثير علشان كده مسكتك كل حاجة مكاني وأنا عايش علشان النَوَر ايلي حوالينا حيطمعوا فيك.. مينفعش توقع يا منصور.. إحنا بنلعبوا لعبة ايلي يوقع فيها مالوش قومة... كل واحد له قانونه يا منصور وايلي أقوى دايما هو ايلي صح.. الكل يعمل له حساب وهيبة.. لازم تكون الأقوى علشان تفضل على طول صح.
مشكلة الأنظمة الشمولية الغنية منها و"ايلي فقراء أوي"، أنها لا تسمع غير صدى كلامها في ظل تغييب أي صوت مخالف قد يهدي إليها "عيوبها". لأجل ذلك تراها تتصرف كما لو أنها تملك سلطة القرار وفق آليات قبلية وعشائرية أكل عليها الدهر وشرب. تنسى أنظمة حلف الحصار أن للإنسانية مبادئ أساسية قاتلت من أجل إرسائها، وإن استطاع بعض "الأقوياء" كسرها والقفز عليها فإنهم لن يسمحوا لغيرهم بإعمال نفس الآليات، فوحدها من له حق "الفيتو" وحق القفز على القانون الدولي. فقدان الاستقلالية واستجداء العون الأمريكي في خطابات علنية (حالة السيسي) وفي الكواليس وانتظار الإذن منه للتحرك ضد إحدى "الشقيقات" دليل ضعف ومهانة وذل. والذليل لا "يتشطر" إلا على من يعتبرهم الحلقة الأضعف. مفتاح "النجاح" في حسن اختيار الحلقة الأضعف، وإلا ف"خليك في بلدك أحسن لك" أو ليكن في "ثكنتك" أفضل لك وأسلم.
في مصر، يستثمر النظام الانقلابي الاحترام والتقدير اللذان تحظى بهما القوات المسلحة في الوجدان الشعبي، فيتخذ من ذلك "تفويضا" بالتصرف في المحروسة بمنطق "العزبة" بلا حسيب ورقيب. وليس أفضل من المشهد التالي من فيلم "الجزيرة" في جزئه الأول شرحا لصبر المصريين على حكم العسكر للبلاد.
يخبر العميد رشدي وهدان الضابط طارق أن والده، اللواء فؤاد بسيوني، هو الذي أسس ورعى خطة صناعة النظام البوليسي لمجرمي الصعيد من أمثال علي الحفني وابنه منصور، ولثنيه عن تقديم تقرير يكشف حقيقة ما يقوم به بالصعيد يسترسل في الحديث.
العميد رشدي: ابوك كان أول واحد عمل الموضوع ده مع علي الحفني.. طارق! لو فتحت فمك بكلمة واحدة حتلوث شرف أبوك.. وإذا كنت دلوقتي متضايق أن سمعة أبوك الكويسة بتطاردك صدقني حتتضايق أكثر بكثير لما تبقى سمعة أبوك الوسخة هي ايلي بتطاردك.. طرق زمان مبقتش تنفع؟ ماشي.. موافق.. يبقى ايه بقا الحل؟ الحقيقة تندفن مع منصور وبعدين نبتدي من أول السطر.
الرقابة في الأصل مصدرها البرلمان، لكن بناية مجلس الشعب صارت أشبه بسيرك بعد أن ضمت إليه المخابرات الحربية كل ميتة ومنخنقة وموقوذة ومتردية ونطيحة. لأجل ذلك، لن يتبقى أمام البلد غير السيناريو الذي أعلن من خلاله منصور الحفني إنهاء الوجود النظامي بأرض "الجزيرة".
منصور الحفني جالس ببهو بيته يطالع صور عائلية يظهر فيها عمه حسن الذي تم قتله بعد "خيانته" له. يدخل بعض من أعوانه المطاريد.
الريس جمعة: خلاص يا ريس.
منصور الحفني: دفنتوه؟
الريس جمعه: البقية في حياتك.
منصور الحفني: ماليش صالح بالحاجات دي. خلينا في المهم.. الهدنة ايلي بيننا وبين الحكومة خلاص خلصت. ومن هنا ورايح مش عاوز اشوف نفر في الجزيرة مش شايل سلاح.. حتى العيال الصغيرين شيلوهم سلاح.. ومن النهارده محدش من الحكومة حيخطي عندنا الجزيرة وايلي يلمح فيكم طيف عسكري يطخوا.. مفهوم؟ متنطقوا!
الجميع: مفهوم يا ريس.
يصادف ذلك تمكن غرفة العمليات بالمديرية من فك التشفير الذي استخدمه منصور للتشويش على عملية التنصت عليه. يفطن منصور للأمر فيوجه كلامه مباشرة للمتنصتين.
منصور الحفني: سامعني يا طارق بيه؟ ايلي حيلمح طيف عسكري حيطخوا ولو ضابط حيدفنوا مطرحه.. من النهارده مفيش حكومة.. أنا الحكومة.. أنا الحكومة.
في شبه جزيرة سيناء، يكاد السيناريو يتحقق، وفي جزيرة الوراق مجرد استراحة محارب، وعلى بقية الجزر نار تحت الرماد تكاد تنفجر في وجه الجميع.