يسطّر الفلسطينيون هذه الأيام صفحة ناصعة أخرى من صفحات كفاحهم اليومي ضدّ احتلال استيطاني شرس أغراه تهاتفُ الأعراب على التطبيع معه بلا مقابل، والتماهي معه في وصْم مقاومتهم بـ"الإرهاب"، فلم يتورّع عن وضع بوابات إلكترونية أمام المسجد الأقصى المبارك لإثبات سيادته عليه وإذلال المصلين والتحكّم في دخولهم وخروجهم.
الفلسطينيون الذين لبُّوا بقوّة نداء النفير إلى الأقصى، يعلمون جيدا أن ما يفعله الاحتلال هو مقدّمة للتقسيم المكاني والزماني للمسجد بين المسلمين واليهود، أسوة بـ"تجربة" تقسيم الحرم الإبراهيمي بعد إحراقه في 1994، مع أنّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) أقرت في أكتوبر 2016 أن الأقصى "مكان عبادة خاص للمسلمين ولا علاقة دينية لليهود به".
لقد أدرك الفلسطينيون أنهم إذا استسلموا لهذا الإذلال ودخلوا المسجد عبر البوابات الإلكترونية للاحتلال، فسيكون ذلك بمثابة تكريس للتقسيم الزماني والمكاني، وهذا بدوره يمهّد لخطوة أخرى أخطر وهي هدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم بدله، فهبُّوا للدفاع عن قبلة المسلمين الأولى ورفضوا الدخول من أبواب العار، وقد يلجؤون في الأيام القادمة إلى تفعيل انتفاضة الطعن بالسكاكين والدهس بالمرْكبات وشتى أشكال المقاومة في القدس والضفة.
وبرغم اشتعال الأوضاع في الأقصى وأكنافه، بقي الحكام العرب والمسلمون "أوفياء" لطبعهم وسلبيتهم، فلم نسمع منهم مواقف قوية تستنكر ما يجري من مناكر في الأقصى، وكانوا أقلّ رجولة وشجاعة حتى من المطران حنا عطاء الله الذي انبرى لدعم المرابطين في الأقصى وعدّ حصار المسجد اعتداء على المسيحيين قبل المسلمين!
والأدهى من ذلك أنَّ بعضهم التمس الأعذار للاحتلال وقال إن "نصب آلات كشف المعادن أصبحت اعتيادية في الأماكن المقدّسة بسبب الإرهاب الذي يضرب من دون تمييز؟!"، ليؤكد عرب التطبيع والهرولة مجددا اصطفافهم مع العدو ولو على حساب أولى القبلتين، فكل من يدافع عنها فهو "إرهابي" لا يختلف بنظرهم عن الدواعش!
هذا التخاذل والتآمر وتبرير بغي الاحتلال والتماس الأعذار له هو الذي شجّعه على نصب الأبواب الإلكترونية والكاميرات وتصعيد قمع الفلسطينيين، لكن كل ذلك لم ينل من عزيمة شعب الجبَّارين الذي هبّ للنفير إلى الأقصى ومواجهة الاحتلال وإفشال مخططاته مهما كان حجم التضحيات، فقد اتضح أن حجم المؤامرة كبير والهدف النهائي هو هدم الأقصى وتهويد القدس وتصفية القضية الفلسطينية برمّتها بتواطؤ عربي غير مسبوق، ولا بدّ من التصدّي للمؤامرة بأيّ ثمن.
قد لا يتمكن الفلسطينيون اليوم من تحرير أرضهم بسبب شراسة الاحتلال المدعم أمريكيا وغربيا، وخذلان العرب لهم وتآمرهم على مقاومتهم وانتفاضاتهم المتعاقبة، لكن المطلوب منهم هو مواصلة الثبات ومناوشة العدوّ إلى أن يغيّر العرب والمسلمون ما بأنفسهم ويطيحوا بأنظمتهم التي تحول بينهم وبين الزحف على فلسطين وتحرس "حدود" العدوّ، وحينذاك سيحررونها حتما ويسومون الصهاينة سوء العذاب "فإذا جاء وعدُ الآخرة ليسوءُوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليُتبِّروا ما علوا تتبيرا".