الأزمة الخليجية أتت بظلالها على اضطراب الأوضاع والاستقرار في المنطقة، فالبرغم من المساعي الإقليمية المتمثلة في الكويت وتركيا، والجهود الدولية المتمثلة في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وغيرها من الدول، إلا أن الأزمة لا تزال تراوح مكانها، ومرشحة للاستمرار لفترة طويلة. هذا ما أكدته بعض تصريحات المسؤولين في تلك الدول.
ومع تعنت السعودية والإمارات بشأن المحاولات المستمرة لجعل قطر تابعة لسياستهما في المنطقة، إلا أن إصرار قطر على التمسك بحقها في الحفاظ على سيادتها، واستمرار دبلوماسيتها المتّزنة في التعاطي مع الموقف، جعل البلدين (السعودية والإمارات) وتوابعهما (البحرين ومصر) يتبعون سياسة الأرض المحروقة، ومحاولة تشوية الخصم بكل الوسائل غير المشروعة، في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، من أجل تهييج الرأي العام العالمي ضد دولة قطر، بحجة محاربة الإرهاب!
أقول هذه الأزمة لها مآلاتها وآثارها على أكثر من مستوى:
فعلى مستوى مجلس التعاون الخليجي؛ تطرح الأزمة الخليجية شكوكا ثقيلة الظل على مستقبل مجلس التعاون الخليجي، في المدى القصير والمتوسط، على الأقل، وعلى فعالية المجلس وتعبيره عن إرادة خليجية موحدة، وربما تؤدي هذه الأزمة إلى تفكك مجلس التعاون الخليجي، وعلى أقل تقدير استمرار توتر العلاقات بين مكوناته، وربما تجميد عضوية قطر، وانزواء سلطنة عمان وبُعدها عن المشهد.
وعندما تنقلب العلاقات بين دول المجلس بهذه الصورة المفاجئة، وتتحول من علاقات تعاون وتوافق وتحالف إلى ما يشبه الحرب غير المعلنة، فسوف تبحث دول المجلس المختلفة عن ترتيبات وتحالفات جديدة في المنطقة، للحفاظ على أمنها واستقرارها، وربما تؤثر على دول الحصار أكثر مما تؤثر على دولة قطر، ومن ذلك تحالف قطر مع تركيا وإيران وروسيا وبعض الدول الغربية، ولن يكون ذلك في مصلحة الشعوب بشكل عام، وسيتيح الفرصة للتدخل في المنطقة بشكل غير مسبوق.
وحتى على المستوى الشعبي، رسَّبت الأزمة شكوكا في أوساط الخليجيين من إمكانية عملهم واستثمارهم في دول خليجية أخرى، بل وحتى زواجهم من مواطنين أو مواطنات دول خليجية شقيقة.
وعلى المستوى الاقتصادي؛ لا شك أن هذه الأزمة أثّرت على مجمل الاستثمارات في المنطقة، خصوصا في دول الخليج؛ بسبب حالة الترقب المستمرة لاحتمال نشوب حرب، أو تدخل عسكري خاطف في قطر، تنتهي بضرب الاستقرار السياسي في الخليج، ومعروف أن المستثمر الأجنبي لا يرغب في الاستثمار في منطقة غير مستقرة سياسيا، عرضة للمفاجآت السياسية والتقلبات غير المحسوبة.
وعلى صعيد أسعار النفط، يلاحظ أن الأسعار انخفضت منذ بداية هذه الأزمة التي من المتوقع أن تهدد اتفاق تمديد اتفاق منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" خفض سقف الإنتاج. وربما تنتهي إلى عودة الدول المنتجة للنفط إلى مرحلة "فوضى الإنتاج"، حيث تنتج كل دولة في "أوبك" على هواها، فتنحدر أسعار النفط إلى مستويات تحت 40 دولارا للبرميل.
وإذا حدث ذلك، وهو ليس مستبعدا في حال تمادي الحصار، فستكون أولى ضحاياها السعودية والإمارات اللتين تعتمدان على النفط أكثر من قطر، التي تعتمد على الغاز الطبيعي المسال، المرتبط بعقود طويلة الأجل مع مستهلكين ثابتين في آسيا وأوروبا.
وتنعكس الأزمة الدائرة مباشرة على الأسواق المالية والبورصات الخليجية، خصوصا مع ارتفاع حدة القلق لدى المتداولين، التي يمكن قراءتها بالتراجع الذي يصيب بورصات الدول المقاطعة منذ إعلان الحصار على قطر.
وعلى المستوى الإقليمي والدولي؛ سيكون لاستمرار الأزمة أثر كبير على أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة المتمثلة في الحرب على الإرهاب، إذ إن الخلافات بين معسكر (دول حصار قطر)، والمعسكر المقابل له (قطر ومن معها)، سيشتت الجهود، وستصبح التجاذبات الداخلية صاحبة الاهتمام الأكبر في المنطقة، ولا شك أن هذه الأزمة ستؤثر بالسلب على الوضع في اليمن، فبعد أن كانت قطر في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، تم إخراجها من هذا التحالف، لصالح تمدد الإمارات خصوصا في الجنوب، ومحاولات أبوظبي لتقسيم اليمن، وهذا الوضع سيعقّد المشكلة في اليمن، ولن تحل على المدى القريب، وستكون الشرعية غطاء لممارسات الإمارات والسعودية في تفتيت اليمن، وفي النهاية الشعب اليمني سيزداد فقرا فوق معاناته، فالحالة المزرية التي وصل إليها المواطن اليمني من انقطاع رواتب الموظفين، ومجاعة تطل برأسها في كل مكان، وانقطاع تام للكهرباء، وانتشار وباء الكوليرا، وغياب الحد الأدنى من مؤسسات الدولة، وتحكُّم المليشيات المختلفة في الحياة اليوميّة للناس شمالا وجنوبا، وما يتبع ذلك من انتشار للجرائم، كل ذلك سيمدد أمد الحرب، وستتوالى الخسارة على الجميع.
وعلى المسار السوري، فبعد أن كان موقف السعودية قريبا من موقف قطر في إزاحة بشار الأسد وإبعاده، أصبحت هناك أصوات في المملكة تدعو إلى إبقاء الأمر على ما هو عليه، وهذا ما تذهب إليه الإمارات، وسيؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى تعقيد المشهد، ومعاناة الشعب السوري المستمرة منذ أكثر من ست سنوات، وزيادة تجبّر بشار في قتل شعبه، وتعميق معاناته!
وعلى مستوى القضية الفلسطينية، نشاهد مساعي حميمة من المملكة للتطبيع مع العدو الصهيوني، وظهر ذلك جليا في التصريحات التي صرّح بها أنور عشقي رجل المخابرات السعودي، بأنه لا مانع من التطبيع مع إسرائيل، وهذا يقترب من موقف الإمارات المتواصل بشكل كامل مع إسرائيل.
كل هذا سيؤثر على مسار القضية الفلسطينية على المدى المنظور، ولعل موقف إسرائيل من إغلاق المسجد الأقصى في الأيام الأخيرة، كان كاشفا لحقيقة الموقف، حيث لم تدن أي من دول الحصار هذا العمل الإجرامي. الذي أدان فقط من الدول العربية الكويت وقطر والأردن!
وعلى المستوى الإعلامي؛ الملاحظ أن التغطية الإعلامية المهنية غابت عن القنوات الفضائية، وبالتالي غابت الحقيقة إلى حد كبير، وأغلب ما يتردد على مسامعنا من تعليقات وتصريحات وتحليلات، يدخل ضمن إطار المناكفات السياسية، وليس ضمن بث الوعي والمعرفة.
وما يدور الآن من نشاط إعلامي على مستوى الخليج، يذكّرنا بذلك النشاط الإعلامي العربي الذي ساد في مرحلة الخمسينيات والستينيات، والذي كان مجرد أفواه كبيرة تدافع عن هذا الموقف وتدين ذاك، ناهيكم عن المكايدة السياسية في الإعلام المصري غير المسبوقة التي تقلب الحقائق وتزوّر الواقع، وتستخدم كل الوسائل القذرة في تشويه دولة قطر.
من المستفيد إذن من الأزمة الخليجية؟
هناك العديد من الأطراف التي تستفيد، بشكل أو بآخر، من الأزمة الخليجية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي كان واضحا أنها تحاول ضبط خطوات دول الحصار، لمزيد من امتصاص أموالها وحلب خيراتها وإخضاعها لأجنداتها.
وفي الجهة الأخرى، الكيان الصهيوني أحد أكبر المستفيدين من تلك الأزمة، فاستطاع التسريع بوتيرة التطبيع معه، وأن أمورا كثيرة كانت من قبيل المحرّمات غير المعلنة أصبحت مما يتنافس عليه المتنافسون، فأقلام مؤيدة للنظام السعودي أصبحت تتبجح علنا بتقاربها مع الصهاينة، واعتبار هذا التوجه من قبيل السياسة الحكيمة التي تستحق الثناء. وفي الوقت نفسه، تلتقي مع الصهاينة في شيطنة المقاومة، وسبّ حركة حماس بوصفها طرفا إرهابيا ينبغي عزله ومحاربته، وهو ما تكرّر في تصريحاتٍ للسفير السعودي في الجزائر، ولوزير خارجية المملكة، ليصل الفجور في الخصومة إلى حد ادّعاء وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، في رسالة وجهها إلى مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، أن مطالبة بلاده بإغلاق قناة الجزيرة إنما هي بسبب عدائها للسامية، وإنكارها الهولوكوست، مستعيدا مفردات صهيونية بامتياز لشيطنة الخصوم.
وقد تزامن هذا الهجوم على "الجزيرة" وبشكل غريب مع الحملة الصهيونية على المسجد الأقصى، وهو أمر انشغلت المواقع الإعلامية العربية الموالية لدول الحصار عنه، بسبّ قطر و"الجزيرة" بوصفها بؤرة الإرهاب، متغاضية عن العدو المركزي للعرب والمسلمين، ولكل إنسان حر!
أما الطرف الثالث المستفيد من حصار قطر والحملة عليها فهي إيران؛ وهنا المفارقة العجيبة، ذلك أن ثلاثي الحصار، ومن تبعهم من الأنظمة الفاشلة، جعلت من أسباب حصارها العلاقة القطرية المفترضة مع طهران، لتتحول الأخيرة من مستهدفة إلى مستفيدة، بعد أن أصبحت مراقبا لخلاف خليجي داخلي، مكّنها من مزيد ترتيب أوراقها في مواقع تدخّلها المختلفة، خصوصا في سوريا واليمن، وفي الوقت نفسه، لم تفقد شيئا من علاقاتها الاقتصادية القوية مع دول الحصار نفسها، فلا زالت الإمارات أعلى دول المنطقة في التعامل الاقتصادي مع إيران، ولازالت علاقاتها قائمة مع مصر، بل ووجدت الفرصة، كي تطرح نفسها طرفا عقلانيا في المنطقة، يحافظ على علاقات معقولة مع جميع الأطراف!