الحدث استاء منه التونسيون وسخروا: في الذكرى السنوية الأولى لحادثة الدهس الإرهابية في مدينة نيس الفرنسية، أقيم موكب رسمي بإشراف الرئيس ماكرون تحدث فيه كثيرون من بينهم محافظ مدينة سوسة التونسية، الذي ألقى كلمة باسم بلاده باللغة الفرنسية، فبدا متعثرا مرتبكا بلكنة ركيكة.
لم يكن الرجل أول مسؤول تونسي يبدو على هذا النحو، فعلها قبله رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي في مقابلة تلفزيونية، فظل محل تندر مواطنيه لأشهر طويلة. لكن ما بدا محرجا ومخجلا هذه المرة أن الأمر جرى في مناسبة عامة وفي عقر دار الفرنسيين.
ليس مهما كثيرا هنا العودة إلى المسؤول الحقيقي عن هذا الإحراج، سواء الذي قرر أن يكون تمثيل تونس بمحافظ كهذا، أو قبول الرجل نفسه أن يظهر بهذا الشكل المهزوز، لأنه لم يعرف أصلا عن المسؤولين التونسيين، ومنذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة سوى إتقانهم للغة فولتير، هكذا كان بورقيبة نفسه بثقافته الفرنسية الواسعة وكذلك جيله من الوزراء وكبار المسؤولين، بل إن فرنسا نفسها عرفت في فترة من الفترات شخصيات تونسية أجادت الفرنسية أكثر من أصحابها مثل المرحومين حمادي الصيد مدير مكتب الجامعة العربية في باريس في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أو السفير التونسي في العاصمة الفرنسية لسنوات طويلة الهادي المبروك. كان ذاك جيل أتقن لغة المستعمر حديثا وثقافة، تبعه جيل لغته العربية أقوى من فرنسيته إلى أن وصلنا الآن إلى جيل لا باع له لا في هذه ولا تلك.
لو وقفت الأمور عند التونسيين ولغة مستعمرهم القديم لهانت الأمور، ولو وقفت كذلك عند مستوى المحافظين لهانت أكثر، لكن الأمر امتد إلى أعلى بكثير، ليس فقط إلى مستوى الوزراء العرب الذين أثبتوا في كل محفل لهم مدى تواضع إمكاناتهم في لغة الآباء والأجداد وإنما إلى معظم القادة العرب وهو أمر يتجلى في كل مناسبة رسمية يتم فيها تبادل الكلمات، ويتضح بجلاء لا مثيل له في مؤتمرات القمة العربية التي غالبا ما تتحول إلى مهرجان للفتك الجماعي بلغة الضاد.
ولأن للانحدار في السياسات العربية أوجها مختلفة، فإن من أبرزها بلا شك هذه القدرة العجيبة خلال الخطب الرسمية على الإضرار واسع النطاق بقواعد اللغة ما يجعل أعلام النحو التاريخيين يعرفون المعنى الحقيقي لعذاب القبر. كلنا يذكر مدى الضرر الذي كان يلحقه بلغتنا الزعيم الراحل ياسر عرفات كلما تحدث بالفصحى فيختلط الفاعل بالمفعول به، وكل شيء بكل شيء، ومن أشهر ما ظل عالقا جملته الشهيرة في الأمم المتحدة «لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي» حيث رفع الغصن عوض نصبه فضاع المعنى والحمد لله أن الترجمة إلى اللغات الأخرى لم تكن معنية بذلك. ومع هذا، فالزعيم الراحل الذي بالمناسبة نفتقده كثيرا في هذا الزمن الفلسطيني البائس، لا يقارن لا من قريب ولا من بعيد بالرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي مثلا الذي يستبعد أن يجود التاريخ بمثله في اغتيال اللغة العربية إلى درجة قدرته على ارتكاب أكثر من خطأ في المفردة الواحدة، حتى أن أحد اليمنيين قال بأن هادي وبمجرد الشروع في الحديث تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بجمل من نوع: اللغة العربية تتعرض حاليا لقصف عنيف.. وغير ذلك من العبارات الساخرة.
قبل سنوات، كانت القمم العربية تشهد كلمات للقادة الراحلين الملك الحسن الثاني وهواري بومدين والحبيب بورقيبة وأنور السادات والملك فيصل وحافظ الأسد والملك حسين وكلهم يتمتعون، بدرجات متفاوتة، بمستوى رفيع في اللغة العربية قراءة وارتجالا إلى أن وصلنا هذه السنوات إلى طينة من القيادات يعتبر أداؤها في اللغة انعكاس لذات مستواها في غيرها من الميادين. الغريب أن من هؤلاء من تربى أميرا ومرشحا للحكم منذ كان رضيعا ومع ذلك لم تكفه كل تلك السنوات وترفها أن يخصص له مدرس للغة العربية يعلمه منذ نعومة أظافره الفرق بين المبتدأ والخبر وبين الفاعل والمفعول به. لن نتحدث هنا عن اللغات الأجنبية وكثير منهم لا يجيدون أيا منها، ولكن عن لغة القرآن التي يفترض أن يكون أي واحد قادرا على قراءة نص من بضع صفحات قراءة لا لحن فيها.
الغريب هنا أن هزال المعرفة باللغة العربية عند هؤلاء كثيرا ما يقترن بضعف الاستعداد لإلقاء الكلمة، أي لا يكفي أن معظمهم ليس متمكنا من اللغة فيزيد عليها أنه لم يتمرن حتى على إلقاء هذه الكلمة المشكــّلة لتجنب الظهور المربك، أو لعله يفعل ولكن لا يفلح وتلك مصيبة أخرى.
هذا أمر لن تجده عند مسؤولين أجانب إجادتهم للغة بلدهم جزء من إجادتهم الحكم، وعلى أي حال، فكل ما يفعله قادتنا ومسؤولونا باللغة العربية ليس بعيدا عما يفعلونه بشعوبهم في النهاية!!
القدس العربي
2
شارك
التعليقات (2)
يوسف حسن
الأربعاء، 19-07-201708:01 ص
بدلاً من الندب وهو أمر سلبي؛ أقترح أن تقوم الجزيرة بخطوة إيجابية وتخصص برنامجاً يومياً لحث العرب على احترام لغتهم العربية.
ناصح قومه
الأربعاء، 19-07-201707:26 ص
محمد ؛ بيّض الله وجهك يوم تسود وجوه؛
المسؤول عن كل ما وصفت يا أخي هي سياسات و برامج كل من التعليم و الثقافة و الإعلام في كل اقطار الوطن العربي خلال ال60 سنة الماضية و هي جميعا ليس فقط سياسات وبرامج كسيحة فاقدة للاهداف الحضارية (وأولها انتاج الإنتماء) و لكن أخطر من ذلك كونها في كل قطر عربي موجهة توجيها خبيثا من قبل أعوان المحتل السابق في مراكز القرار السياسي والاداري) نحو تتفيه الوعي الجمعي و الفردي و مراكمة التشوهات في الأذهان و الألسن لأجل تفكيك اللسان العربي الفصيح الجامع والمنتج للانتماء الحضاري العربي المسلم.