كتاب عربي 21

فيه أمل...

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
تم تحرير مربع صغير آخر. لقد  قبض على مدوّن بتهمة نشر ولم يمكث في السجن إلا ساعات. أطلق سراحه بعد حملة دفاع شرسة تجند لها شباب الفايس بوك وهو الموقع الفعال في تونس. غمر الشباب شعور فائض بالحرية المنتصرة على الأجهزة في تونس. هذا مربع محرر لن يصير يسيرا على الأجهزة الفاسدة بعده أن تضيّق على الناس أكثر مما فعلت. الإعلام المضاد للمنظومة حر رغم فقره وقلة حيلته لكن الهواتف والحواسيب فعلت الكثير مما ينبغي. المدون حر ما زال هناك مدون آخر أقل شهرة ربما ولكن "الضغط يجيب" كما يقول شباب الفايسبوك. نعرف أن التفاؤل المبني على واقعة واحدة مبالغ فيه ولكن إغفال الأمر نهائيا تشاؤم في غير محله. ها هي نقطة ضوء سنوسعها.

الشنفرى التونسي 

لسعد البوعزيزي ويسميه الأقربون الصعلوك أو الشنفرى التونسي ليس شاعرا ولكنه مناضل سياسي متمرس سجن في عهد الدكتاتورية أربع مرات بتهم سياسية ملفقة طبعا. ناضل ضمن الحزب الديموقراطي التقدمي زمن كان هذا الحزب هو التعبيرة الأقل تلوثا بمداهنة الدكتاتورية. ثم لمع في أيام الثورة الأولى ضمن فريق من أبناء بلدته وأصدقائه بقيادة التحركات الأولى للثورة في مدينة سيدي بوزيد ووقف قبل الآخرين على عمق حادثة الاحتراق فمحمد البوعزيزي بعض أسرته. ونطق قبل كثيرين بضرورة بل بإمكان إسقاط الدكتاتورية ومكنته قناة الجزيرة من فرصة جيدة لتوسيع دائرة اللهب وكان ورفاقه الأوائل القادح الفعال لإخراج الثورة من بوزيد إلى جوارها القريب ثم القصبة الأولى والثانية. 

بعد الثورة بقي خارج النضال الحزبي مستقلا شرسا وواصل الكتابة والتدوين والمشاركة في التحركات الميدانية المتاحة. وضع نصب عينيه التأكيد اليومي على رؤوس الفساد السياسي والقهر الأمني وتحول إلى محرض يومي عليهم. ويبدو أنه أريد الإيقاع به بعد نشر تدوينة مرفوقة بصور لقيادات أمنية مع مهرب معروف في سوق سلاح ثقيل بالإمارات فتقدم المهرب بقضية في الثلب والتحريض انقلبت عليه (بأخطاء إجرائية شكلية أولا) ولكن بسبب أساسي مخفي. كانت القضية ستفتح باب مساءلة حقيقية لعلاقة الأمنيين المشار اليهم بشبكات التهريب وتجارة السلاح. وكان للفيسبوك دور مركزي في الفضح والتشهير والضغط حتى إطلاق سراح المدون وعودته إلى أسرته.

دروس من العملية 

أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من العملية أنه يمكن محاربة الفاسدين ولو بمجهودات فردية بشرط توفر دقة المعلومة وشجاعة ترويجها وتحمل كلفة ذلك نضاليا. وهذا متاح لكثيرين خاصة من داخل الإدارة فالنشر السريع والتداول وتبادل المعلومات خلق حالة فزع لذي الفاسدين فالفضيحة لن تكون خفية وهذا يدعو المؤمنين بمقاومة الفساد إلى التحرك وتوفير المعلومة الدقيقة التي إن لم تؤد إلى القبض على الفاسدين (هذه مرحلة لم نصلها بعد).. فإنها تخلق جوا عاما من الحذر منهم وعدم تصديق رواياتهم المزيفة عن ثرواتهم وخاصة عن نفوذهم الكاذب الذي يربكون به الناس في غياب دقة المعلومات. إن الفاسدين يخافون أيضا وقد ثبت هذا بعد اعتقال الشاب وإطلاق سراحه.

الدرس الثاني أن هناك لحمة كبيرة بين شباب كثير يجهل بعضه بعضها إلا في الافتراضي مستعد للنضال في هذال الباب ودفع الأمور إلى القضاء أو على الأقل كشف المستور من الفساد على أمل تحوّل المقاومة إلى فعل جماعي خارج الافتراضي هذه الفئة الجديدة هي بنت الثورة وقد عبرت عن نفسها في ردهات مختلفة كالتضامن مع جمنة واعتصام الكامور وآخر تحركاتها الافتراضية هي الدفاع عن المدوّن المذكور. 

من يستثمر في هذا الزخم ومن يوجهه؟ إنه زخم عفوي منتم للثورة وسيكون قاسيا جدا على من يحاول سرقته أو توظيفه وهذا درس آخر ليس هذا مجاله الآن.

درس آخر لا يمكن أن يفوت كل مراقب للساحة وقد أكد بعضه المدون بعد خروجه وهو على غاية من الأهمية. لقد انقسمت الأجهزة الأمنية والقضائية إلى صنفين صنف مع القانون وتطبيقه دون إفراط وصنف ما يزال يرابط في موقع أمن وقضاء التعليميات ويستثمر في الترهيب والقهر. وقد مرت قضية المدون بالصنفين صنف الذي وجه الاتهام فجلب المدون من منطقة أخرى خارج التخصص الترابي أرهب المدون بالتهديد وصنف حسم أمر الإجراءات الشكلية و أطلق السراح وفكك الملف المركب (المفبرك) دون ضغط خارج القانون. 

قال المدون لاحقا أن الثورة دخلت الأجهزة الأمنية والقضائية وهذا تقدير سليم ويبشر بخير كثير لأن سلامة هذه الأجهزة وخروجها من إرث الدكتاتورية منذر بنهاية نظام قمعي وإلى الأبد وبدء عصر الحرية ضمن ضوابط القانون وبضمانات القضاء المستقل. كم سيستغرق (تطهير الأجهزة)؟ هذه معركة حقيقية لا تزال علاماتها قليلة ولكن في قضية المدون برزت مؤشرات يمكن اعتماها في التحليل أن الدولة تعود على حساب النظام.

الاستثمار في فجوات الحرية

لكن في محاولة توسيع نقطة الضوء لمزيد من التفاؤل تبين أن الفرح الفايسبوكي مؤقت فالتجند سريع والنسيان أسرع. لقد مرّ المدونون والنشطاء إلى شواغل أخرى غالبها مفبرك ومصطنع للإلهاء من ماكينة إعلامية عندها غرفة تحرير كاملة المواصفات ولديها خطتها في الإلهاء والتهميش والتمييع.

هذا معطى مهم لا يزال يهمين على طبيعة النشاط الافتراضي المنتمي للثورة في تونس الذي نكتشف بعد أنه بلا رأس وبلا خطة أو غرفة عمليات. والحقيقة أن قوة العفوية تنهار أمام حيل التوجيه الخفية التي تملك عقلا مدبرا يكفي رمي إشاعة عن أمر سخيف بلاق قيمة لتسير خلفه (قطعان) و(أتعمد اختيار الكلمة هنا) من المدونين المشغولين رغم نضاليتهم في قضايا كثيرة بالترويج الكسول وحصد الإعجاب بالنشر وغير ذلك من الدواعي التي تجعل كل الحماس السابق يصاب ببرود وإحباط ويقلب دور الفايسبوك كموقع مستعمل بكثافة في تونس إلى نوع من السوق الفوضوية كل يدلي فيها بدلوه دون خطة.

ليس لدى الصف الثوري الذي يتشكل بهدوء في كل تحرك خطة عمل ولا رأس مدبرة وحتى هذه اللحظة سهل على المنظومة العبث بالشباب. وكشفت أنه رغم الحماس يفتقد إلى التفكير السياسي الرصين فالحماس يتحول أحيانا إلى عاهة تستغلها المنظومة بذكاء.

الأمل باق ويسقى من روح الشباب

لن يمكن للمنظومة بعد قضية المدون لسعد أن تعبث بسلامة المدونين وهناك محاذير بدا كثير من الشباب ينتبه إليها كالدفاع الغضبي عن داعش في لحظات ملل و إحباط أو توتر. أو كثلب الأشخاص أو الهيئات بطريقة مباشرة وليس نقد سلوكهم بأسلوب سياسي واجتماعي.

لن يمكن للقضاء أن يطمئن إلى فساده لقد اخترقته الثورة بهدوء وسيحسب كل قاض فاسد حسابا لزملاء لن يغطوا جريمته ومثل ذلك في الأمن والأجهزة الحساسة.

هنا نقول رغم  كتابات كثيرة سابقة غلب عليها التشاؤم أن الثورة تتسرب إلى داخل الجسم السياسي والاجتماعي التونسي بهدوء ولكن بثبات ووجبت رعايتها في تقدمها دون التعسف عليها لإنجاز ما تنجزه عادة الثورات المسلحة لقد صار للثورة أصوات وشباب وستؤلف خطتها من مسارات الأخطاء التي تقع فيها يوميا. إنه الفرز والتمحيص على طرق الأمل في بناء دولة على أنقاض نظام مات. 
0
التعليقات (0)