قبل أيام، في السابع من تموز/يوليو الجاري، ضجت تركيا بخبر جريمة بشعة جداً جرت في مدينة صقاريا. فقد وجدت سيدة سورية شابة في شهر حملها الأخير مقتولة بضربة على رأسها بحجر بعد اغتصابها، كما وجد رضيعها ذو الأشهر العشرة من عمره مخنوقاً ومقتولاً إلى جانبها، وتبين أن المجرميْن اللذين ارتكبا الجريمة زميلان لزوجها في المصنع الذي يعمل به وجاراه في المسكن أيضا.
تداعت أعداد كبيرة وغاضبة من الأهالي إلى مركز الشرطة حيث أوقف المتهمان مطالبة بإيقاع أقسى العقوبات عليهما، وأمَّ صلاة الجنازة على المغدورة رئيسُ الشؤون الدينية محمد غورماز، الذي لم يستطع حبس دموعه خلال كلمته التي ألقاها في تشييعها.
لم تكن تلك جريمةَ عنصرية أو كراهية بالضرورة، لكنها أتت بالتزامن مع حملة تحريض ضد الوجود السوري في تركيا واستقت منها بعض سياقاتها من جهة، وفي المقابل ساهمت في إخمادها إلى حد كبير ولو مؤقتاً من جهة أخرى.
لم تكن تلك الحملة الأولى للتحريض على إخراج السوريين من تركيا وفي الأغلب لن تكون الأخيرة، مما يحيل إلى أهمية دراسة أسبابها بعمق وموضوعية ووضع الآليات المناسبة والحلول الناجعة للأمر للحيلولة دون تأزم الوضع أكثر، سيما وأن للظاهرة أسباباً موضوعية وذاتية إضافة لعامل التحريض المقصود.
غالباً ما تطلق هذه الحملات متذرعة بسلوكيات بعض السوريين المتناقضة مع العادات والتقاليد التركية أو ببعض الإشكاليات والاحتكاكات بين السوريين والأتراك، ولذا فمن الأهمية بمكان وضع هذه السلوكيات والاحتكاكات في سياقها الطبيعي وأسبابها المتعددة، وأهمها:
أولاً، العدد الكبير للسوريين الذين وفدوا إلى تركيا بعد الثورة وفي فترة زمنية قصيرة جداً نسبياً تقدر بعدة شهور إلى سنوات، مما يضخم الكثير من التفاصيل التي قد تبدو اعتيادية في حد ذاتها.
ثانياً، الاختلافات العرقية واللغوية والثقافية بين الشعبين السوري والتركي، التي تضع أي إشكالية بسيطة تحت المجهر.
ثالثاً، السلوكيات السلبية والأحداث الجنائية والاحتكاكات غير المرغوب بها بنسبة ما بين السوريين بعضهم البعض أو بينهم وبين مستضيفهم الأتراك، كما يحصل في أي مجتمع آخر أو بين أي شعبين.
رابعاً، الآثار النفسية لدى الشباب السوري تحديداً والمتولدة عن حجم الضغوط التي تعرضوا لها بسبب الأزمة في بلادهم ووحشية الظروف التي عاشوها أو عايشوها من قتل وظلم وسحن وتعذيب وقصف وتدمير، فضلاً عن الاغتراب عن بلادهم وحياة اللجوء التي اضطروا لها. يؤدي كل ذلك لدى الكثيرين إلى ما يسمى الهشاشة العاطفية أو الاضطراب العاطفي، ويتبلور في تصرفات غير اجتماعية أو معادية للمجتمع (antisocial behaviour) ليست دائمة مقصودة أو مرغوبة وفي حالات كثيرة لا إرادية وإن بدت عكس ذلك.
خامساً، يرى غالبية الشعب التركي الوجود السوري في بلادهم من زاوية إنسانية ودينية، من باب الواجب الأخوي مع شعب شقيق في محنة ولذلك فقد أطلقوا - رسمياً وشعبياً - على العلاقة بينهما مصطلح "المهاجرون والأنصار"، لكن البعض منهم ينظر للمسألة من زاوية سياسية أيضاً باعتبار موقفه السياسي من الأزمة السورية أو الأسد أو حتى العدالة والتنمية وأردوغان، بحيث يصبح موقفه الحاد من السوريين مجرد تمظهر جديد لمناكفة الحكومة والرئيس والحزب الحاكم.
سادساً، التحريض المتعمد من قبل دوائر بعينها كل حين وآخر، عبر حملات منظمة ومخطط لها بدقة تستثمر - كما سبق ذكره - بعض السلوكيات الفردية أو الاحتكاكات التي تحصل في كل البلاد وبين أي مجتمعَيْن، للمطالبة بإعادتهم لبلادهم أو "تأديبهم" أو ما شاكل.
وقد استغلت هذه الحملات جزءاً من الخطاب التركي بخصوص اللاجئين السوريين في بعض المحطات، سيما فترة التوتر مع الاتحاد الأوروبي، مثل الحديث المتكرر عن الأموال التي صرفتها تركيا عليهم وبعض القرارات المتعلقة بتسهيل فرص العمل أو الدراسة أو إعطاء الجنسية لبعضهم من الكفاءات والتي ضُخِّمت بشكل كبير جداً.
وبالتالي قُدِّمت سردية بأن الوجود السوري يفاقم من الأزمة الاقتصادية في البلاد ويزيد من نسبة البطالة، أو لعبت على الوتر القومي التركي بعبارات وشعارات تندد بالشباب السوري "الذي يتنزه في تركيا بينما الجيش التركي يقاتل عنه في سوريا"، وكعادة أي خطاب شعبوي يدغدغ العواطف وجدت هذه المقاربات والأفكار رواجاً كبيراً رغم تهافتها سيما في ظلال بعض الأحداث السلبية.
قبل الحادثة المشار إليها بأيام، بدأت حملة على وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا تطالب برحيل السوريين عن البلاد، وتصدر وسم عنصري إحصاءات موقع "تويتر". استشعرت الحكومة حساسية الأمر وخطورته سريعاً، سيما وأن هذا النوع من الحملات لم يكن يوماً بريئاً وإنما موجهاً لأهداف الفتنة والاضطرابات والفوضى، وقد تكرر ذلك عدة مرات سيما قبيل الانقلاب الفاشل العام الفائت، وبالتالي حملت هذه الحملة القريبة زمنياً من ذكرى الانقلاب مؤشرات غير إيجابية ورفعت مستوى التيقظ لدى السلطات التركية.
عملت الحكومة التركية وفق منظومة عمل متكاملة. حُذف الوسم العنصري من "تويتر"، وأوقف عدة أشخاص حاولوا تحريك الشارع وإثارة بلبلة. تحدث نائب رئيس الوزراء ويسي كايناك محذراً من فتنة يخطط لها بين الأتراك و"أشقائهم" السوريين، وأثبت بالأرقام والإحصاءات أن نسبة الجريمة بين السوريين أقل منها في المجتمع التركي (مقارنة إيجابية) بل وأقل عنها بين السوريين أنفسهم العام المنصرم (منحنى إيجابي).
وزارة الداخلية أيضاً أصدرت بياناً يحذر من مخططات الفتنة ومن ترويج الأخبار الكاذبة، واعتبرت أن هذه الحملات المشبوهة لا تتفق مع كرم الضيافة لدى الشعب التركي ولا مع "روح المهاجرين والأنصار" بين الأتراك و"أشقائهم" السوريين، حسب البيان. كما وحّدت الشؤون الدينية خطبة الجمعة الفائتة عن العلاقة الأخوية بين الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار مع إسقاط ذلك على واقع تركيا الذي يجمع بين الأتراك والسوريين بعلاقة شبيهة.
ساهمت هذه الخطوات السريعة وغيرها في تخفيف حدة الاحتقان، ووأدت الجريمةُ الصادمة في صقاريا الحملة تماماً سيما مع ما رافقها من تعليقات ومواقف من سياسيين وإعلاميين ومشاهير أتراك شجبت الجريمة وخطاب التحريض والكراهية والتصرفات غير المسؤولة على حد سواء. لكن الوجود السوري ما زال سيطول في تركيا لأسباب عديدة، مما يحتم العمل على استراتيجية أطول نفساً من التعامل مع الأزمات الآنية، وهو ما يرتب المسؤوليات التالية على الحكومة التركية وعلى السوريين من مسؤولين ومؤسسات مجتمع مدني وأصحاب رأي:
أولاً، سياسات دمج السوريين في المجتمع التركي التي تحتاج أن تكون أكثر شمولاً وعمقاً وتنظيماً، سيما ما يتعلق بالتعليم واللغة، مع مراعاة الخصوصية السورية. كانت أرقام الحكومة التركية تشير إلى أن %33 فقط من الأطفال السوريين انتظموا في مدارس تركية أو سورية عام 2016 وهي نسبة متدنية جداً عملت الحكومة على رفعها، ولعلها أحد أهم أسباب الأزمة. فالطفل الذي أتى إلى تركيا عام 2011 في عمر الثانية عشر هو الآن شاب بعمر الـ18، فإذا لم يحصل على حصته من التعليم والعمل والاندماج في المجتمع سيكون أمام خطر الانزلاق لمسارات السلوكيات الخاطئة، أو على الأقل سيكون يداً لا تعمل وعالة على المجتمع.
ثانياً، العمل على إعادة من يستطيع ويريد من السوريين إلى مناطقهم "المحررة" في شمال سوريا في ظل عملية درع الفرات، وتشجيع من لا يريد على ذلك.
ثالثاً، بالتأكيد فإن تأمين حل سياسي للأزمة السورية يقدم للشعب السوري الحد الأدنى من مطالبه إضافة لشعوره بالأمان سيكون له إسهامه في حلحلة الأزمة وزوال التوتر مع الوقت.
رابعاً، سياسة إعلامية واضحة وطويلة الأمد من الحكومة التركية لتوعية الشعب بحقائق الوجود السوري في تركيا، أسباباً ومظاهر وتداعيات، مع التركيز على الجوانب الإيجابية مثل مساهمة السوريين في الاقتصاد التركي والزيجات المشتركة بين الجانبين ومواقف السوريين إلى جانب تركيا وشعبها في أكثر من مناسبة سيما المحاولة الانقلابية الفاشلة...الخ، إضافة طبعاً لترسيخ فكرة قبول الآخر رغم الاختلافات واعتبار ذلك نقطة ثراء وتنوع وليس خلاف وتضاد.
خامساً، وعلى المؤسسات السورية الرسمية والمدنية والشعبية والشبابية مسؤولية كبيرة جداً في التواصل مع الشباب السوري وتوعيته بأهمية مراعاة العادات والتقاليد التركية بحيث لا تكون استضافة تركيا لهم عبئاً عليها، وبخطورة الحملات المغرضة التي تستهدف التعايش التركي - السوري وكيفية تفويت الفرصة عليها، وبكون كل شخص سوري (أو من أي جنسية أخرى) ممثلاً لبلاده وشعبه في كل تصرف يقدم عليه حتى ولو لم يشأ ذلك أو يعيه، فنظرة الآخر له ستكون من هذا المنطلق وهو ما يلقي على عاتق الجميع مسؤولية مضاعفة وجليلة في ظل ما حصل ويحصل.
في الخلاصة، فالحملة الأخيرة للتحريض على طرد السوريين من تركيا محدودة شعبياً وإن تصدرت إعلامياً، لكنها ليست أزمة منبتة عن سياقاتها السابقة والحالية، الأمر الذي يتطلب جهداً استثنائياً واستراتيجياً ومن مختلف الأطراف لتجاوزها ثم للحيلولة دون تكررها ثم للسير نحو انفراجات يحتاجها الجميع، فتركيا والسوريون على حد سواء في غنى عن أي أزمات جديدة.