امتد لقاء هامبورغ الذي جمع ترامب وبوتين ساعتين وربع الساعة ورغم تدخل زوجة الرئيس بعد ساعة من اللقاء في محاولة لوقفه بدخولها قاعة الاجتماعات؛ إلا أن ذلك لم يمنع من استمراره لساعة أخرى بحسب وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون؛ ما دفع الكثيرين إلى التساؤل ما هو الإنجاز الكبير الذي تحقق عقب هذا اللقاء المطول الذي فاق مدته المقررة مسبقا بساعة ونصف الساعة.
انتهى اللقاء بالإعلان عن اتفاق في سوريا اسماه وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون «اتفاق تجنب المواجهة»، في حين اسماه مسؤول في الخارجية الأمريكية بحسب موقع سبوتنك ووكالة الأنباء الروسية بـ«الاتفاق على خارطة خط التماس»، ونفى مسؤولون آخرون انه امتداد لاتفاقات خفض التوتر، واسماه آخرون باتفاق وقف اطلاق النار، في حين اسماه الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية انه اتفاق لدعم جهود وقف اطلاق النار في سوريا.
كثرة التسميات والتوصيفات للاتفاق زادت من غموضه وحقيقته؛ إذ بات من الواضح أن كل طرف من الأطراف المنخرطة فيه له غايات ودوافع وأهداف مختلفة انعكست على عمليات التوصيف المتباينة؛ ذلك أن ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي أشار إلى أن الغاية من الاتفاق تتمثل بالاستجابة لاحتياجات الأردن الأمنية بإبعاد المليشيا الإيرانية عن حدوده. في حين رأى آخرون بحسب صحيفة الحياة اللندنية انه أيضا يمثل استجابة لمتطلبات الأمن الإسرائيلي التي انخرطت بطريقة أو أخرى في هذا الاتفاق لإبعاد المليشيا الإيرانية عن الحدود الأردنية وحدود فلسطين المحتلة.
الغاية من الاتفاق ستبقى تتأرجح بين وقف النار ورسم خطوط التماس والنفوذ؛ ولعل التوصيف الأمريكي بأنه اتفاق تجنب المواجهة واتساعها، لتتحول إلى مواجهة إقليمية هي الدافع الحقيقي لهذا الاتفاق؛ فأمريكا لا ترغب بالتورط بشكل كثيف في سوريا؛ وتحديد خطوط التماس التي يحظر تجاوزها لا تعني أن العمليات القتالية فيما وراءها ستتوقف بالمطلق في الجنوب السوري، وإنما تجنيب قواتها أيضا في التنف من مواجهة مباشرة مع ايران أو النظام السوري.
ورغم قول تيلرسون بأن الاتفاق جاء بعد اجتماعات مطولة عقد بعضها في الأردن ليكون البداية لإمكانية حدوث تعاون روسي- أمريكي في سوريا، إلا أن خطورته تكمن بكونه اتفاقا يهدف لتجنب المواجهة، راسما خطوط تماس جديدة، فاتحا الباب لمزيد من التكتيكات والمناورات لتجنب تطويره إلى اتفاق نهائي بشكل لن يخدم مصالح الأردن البعيدة المدى؛ بإيصال المساعدات وعودة اللاجئين وفتح المعابر البرية مع سوريا، إلى جانب مخاطر تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ لا نفع منها.
إبعاد ايران عن الحدود الأردنية ومضايقة القوات الأمريكية في التنف التي باتت شبه محاصرة، دافع قوي بالنسبة للولايات المتحدة المنخرطة بمعارك الرقة ودير الزور، خصوصا في ظل اقتراب قوات النظام من المدينة، في مقابل تقدم قوات الأكراد الانفصالية، فبعد أن اختبرت القوات الأمريكية مخاطر مواجهة المليشيا الإيرانية والنظام أفضت إلى إسقاط طائرة حربية سورية في دير الزور وعدد من طائرات الاستطلاع قرب التنف باتت الكلف مرشحة للارتفاع في ظل الممانعة الروسية والانزعاج التركي من دعم قوات قسد الكردية الانفصالية.
الاتفاق بما يحويه من مكونات واطراف خطوة تكتيكية لإنهاء التصعيد كمرحلة أولى تمنع التصارع على مناطق النفوذ ما بعد داعش في الجنوب، إلا انه ليس حلاً نهائيا ينهي القتال، أو يوقف حالة الاستنزاف الإقليمي.
تيلرسون كان دقيقا بالقول: «تجنب المواجهة»، إلا أن قدرة الأطراف الراعية على إلزام كافة الفرقاء ستكون عملية معقدة سواء من جانب النظام السوري أو ايران أو حتى الفصائل السورية؛ فروسيا وأمريكا بشكل واضح لا تريدان المواجهة على الأرض السورية، وهنا يكمن لب الاتفاق وجوهرة؛ ما يعني انه اطار عمل يمكن الرجوع إليه كلما تأزمت الظروف الميدانية في الجنوب أو البادية السورية.
يصعب الجزم بأن الاتفاق سيخدم مصالح الولايات المتحدة بالمطلق، أو يجنب قواتها المضايقات، إلا انه بالتأكيد سيحرر روسيا من مخاطر المواجهة مع أمريكا ويجعلها اكثر قدرة على تمرير رؤيتها فهي باتت فاعلا أساسيا في الشمال بتعاونها مع تركيا، وفي الجنوب بتعاونها مع الولايات المتحدة والأردن، جاعلا من واشنطن اكثر اعتمادا على موسكو لمواجهة الأزمات والمضايقات التي لن تختفي على الأرجح، على امل تجنب مواجهة مكلفة لم يعد بالإمكان تجنبها بدون جهود روسيا والاستعانة بنفوذها المتنامي في المنطقة؛ مسألة ستجعل من مضايقة حلفاء أمريكا مسألة شبه دورية لتحقيق مكاسب روسية مستقبلا في أي حوار موسع أو لقاء جديد بين ترامب وبوتين.