لم يكن تنظيم القاعدة، ذلك القوة الرهيبة، حتى يعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، الإرهاب، باعتباره العدو الأول لبلاده وللمجتمع الدولي، حتى أحداث الحادي عشر من أيلول التي شهدتها الولايات المتحدة، لم تكن كافية لتبرير ذلك الاختيار، الذي حشدت أمريكا العالم لمجابهته، ولم ينجح في هزيمته حتى الآن، أو هي بالأصح لم ترغب في ذلك.
كان ما تسميه الولايات المتحدة عدوا عالميا، مجرد شمّاعة أو ذريعة لإطلاق القدرة الأمريكية في البحث عن توسيع مصالحها، وتعميق هيمنتها، وإطالة عمر النظام الدولي الذي أعلن بوش الأب العام 1990، قيامه بقيادة بلاده.
كان لا بدّ من أن تجد الإدارة الأمريكية أو أن تخلق عدوا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفكك المنظومة الاشتراكية.
بعد تسع سنوات على أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، كانت الولايات المتحدة قد استنفدت الحاجة للقاعدة، فكان عليها تجديد هذه الذريعة، خصوصا بعد أن خاضت حروبها المكلفة في أفغانستان والعراق، وبعد أن اتضح أن سقوط العدو السابق الاتحاد السوفياتي لم يكن نهاية العالم كما أراد المفكر الياباني الأصل فوكوياما، فقد بدأت روسيا، تستعيد قوتها، وانطلق المارد الصيني بهدوء لكي يهدد سيادة الولايات المتحدة على النظام العالمي.
ومنذ وقوع جريمة الحادي عشر من أيلول، لم تتوقف الشكوك عن الجهة التي قامت بالعمل، وادعت القاعدة أنها هي من قام به، كما لم تتوقف الشكوك، حول أسباب نجاح تلك الجريمة في الدولة التي تعمل على نحو حثيث في غزو الفضاء الخارجي.
والسؤال الآن هو متى ظهر تنظيم الدولة الإسلامية، وأين، ولماذا أصبح الشغل الشاغل لكل دول العالم؟ الكل يعرف أن التنظيم ظهر في العراق، وبعد الغزو الأمريكي لذلك البلد، ومستفيدا من التراكيب والصراعات الطائفية التي خلفتها سياسة الحاكم الأمريكي العام في العراق بريمر.
لماذا لم تنتبه الولايات المتحدة لمدى خطورة تنظيم الدولة في العراق، ولماذا تركت له الفرصة لكي ينمو، ويكبر، تحت ناظريها، وأوعزت لبعض أدواتها في المنطقة لكي توفر له كل أسباب الدعم المادي والتسليحي؟
الولايات المتحدة لم تغادر العراق منذ احتلالها له، وقد أقامت فيه قواعد عسكرية، وحرصت كل الوقت على وجود مستشاريها، وأجهزتها الاستخبارية، فكيف أمكن لتنظيم الدولة أن ينجح في إقامة مركز الخلافة في الموصل، ولم تبادر لمنعه منذ البداية، أو القضاء عليه حتى أصبح يشكل خطرا يستدعي إقامة تحالف دولي كبير، لمحاربته.
بعد أن نضع النزعة الإنسانية الكاذبة، والتي تدعي أن صعوبة الحسم، ناجمة عن الحرص على السكان السنّة الذين يتخذهم التنظيم دروعا بشرية، فإن العقل السوي، لا يمكن أن يقتنع بأن معركة غير متكافئة من هذا المستوى تحتاج إلى أكثر من سبعة أشهر حتى يعلن التحالف انتصاره فيها.
لا ينفع إبداء الأسف على ما جرى من أحداث وتدخلات كان فيها بعض العرب أدوات غير واعية، وغير مدركة لأبعاد تلك الاستراتيجية، والتي لم يقتنع البعض أنها لا تستثني دولة في المنطقة.
ألا يلاحظ أهل المنطقة أن تنظيم الدولة، لم يفكر بالاقتراب من دولة الاحتلال الإسرائيلي التي لا يمكن اعتبارها أكثر حصانة من ألمانيا، أو فرنسا أو بريطانيا أو حتى الولايات المتحدة نفسها، وكلها تعرضت لضربات وأعمال إرهابية؟
من كان يتوقع أن ينشب كل هذا الخلاف والتوتر، وعلى هذا النحو الحاسم، بين دول الخليج العربي، وقطر، التي تنتسب للنظام السياسي الخليجي؟
في الواقع، فإن حسم معركة الموصل، ليس سوى فك القفل لخروج المارد من الزنزانة التي حبس نفسه فيها، لكي ينطلق في طول المنطقة وعرضها، هل ثمة من يشك أن الولايات المتحدة، التي أعلن رئيسها دونالد ترامب عن أنه لن يسمح بأن تتحمل بلاده تكاليف حماية أمن أوروبا، ودول الخليج، بأنه لا يبدي الحد الأدنى من الاهتمام بما تتعرض له وستتعرض له هذه الدول الحليفة؟ تدفعه روح الانتقام الأعمى.
سيوسع تنظيم الدولة مجالات نشاطه وعلى نحو أكثر عنفا، وأشد تأثيرا، بحيث يهدد أمن دول الخليج العربي، ودول الاتحاد الأوروبي، التي عليها جميعا أن تدفع الجزية وبأثر رجعي للولايات المتحدة.
بعد الهدية الضخمة التي حصل عليها ترامب من زيارته للرياض، تشير المعطيات إلى تحسن الاقتصاد الأمريكي، بنسبة 1,9%، وتوفر آلاف فرص العمل.
الاستراتيجية الأمريكية لفك وإعادة تركيب الوضع الجيوـ سياسي في الشرق الأوسط، ليست ساذجة، إلى الحد الذي يمكن أن يعلنها مكشوفة، بما يستدعي رفضها ومجابهتها.
هذه الاستراتيجية عمليا وبالتعاون مع إسرائيل قادرة على خلق التهديد الكافي، الذي يرغم الطرف الذي يستشعره على الذهاب إلى خيارات إجبارية.
هكذا يصبح التهديد الإيراني بديلا عن التهديد الأمريكي أو الإسرائيلي، ويصبح خطر الإرهاب، في أولوية السياسات على أي خطر آخر حتى لو كان هذا الخطر استراتيجيا ويهدد مستقبل شعوب، وأنظمة الدولة في كل المنطقة.
في راهن الأوضاع، لا يجرؤ أحد على الاعتراض على أي دولة أو نظام سياسي، يضع على رأس أولوياته، حماية نفسه ووجوده ومجتمعه، ونظامه السياسي، ولصالح أولويات أخرى، كالقضية الفلسطينية، التي تنطوي على تعقيدات هائلة.
وفي الأساس، لا يستطيع أحد مطالبة أي دولة مهددة بأمنها واستقرارها، ووحدتها الاجتماعية، بتقديم الدعم لأي قضية أخرى. إذا هو زمن كل طرف عليه أن يبحث عن حماية رأسه، وتقليل المخاطر والثمن، والأمر ينطبق على الفلسطينيين، الذين عليهم إعادة ترتيب أوضاعهم وأوراقهم، وتعزيز صمود الفلسطيني على أرضه، خصوصا في ضوء اليأس من إمكانية تحقيق سلام يضمن لهم الحدّ الأدنى من حقوقهم.