هناك عدد من الأمور التي أراها محيرة بشأن النزاع الدائر حالياً بين دول مجلس التعاون الخليجي:
أولاً، وكعضو في الفريق الذي وضع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية لفرض العقوبات على إيران على إثر احتجاز دبلوماسيينا في طهران كرهائن، أو أن أقول بأننا قررنا حينها استثناء الأطعمة والأدوية من العقوبات المفروضة. وظل الحال على ذلك طوال سبعة وثلاثين عاماً تلت. وعلى الرغم من جميع العقوبات المجهدة التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران خلال تلك الأعوام، والتي كانت بمثابة شن حرب اقتصادية عليها، لم يحصل أن فرضت أي قيود رسمية على مبيعات الأطعمة والأدوية، ولا حتى على الشركات الأمريكية. إلا أن المقاطعة السعودية الإماراتية بالمقارنة سدت الأبواب في وجه كافة شحنات الأطعمة والأدوية إلى قطر كلما تسنى ذلك، وفي منتصف شهر رمضان. لا أعلم إن كان ذلك يشكل من الناحية الفنية انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، ولكنه بالتأكيد إجراء فائق القسوة إذا ما أخذنا بالاعتبار المعايير الحديثة للنزاع السياسي.
ثانياً، وفيما يتعلق بالأمر ذاته، من المذهل أن العمليات الهجومية التي تشن على القوى المعارضة داخل اليمن تلجأ إلى نفس الوسائل، حيث يحال بين الناس وبين الوصول إلى الأطعمة والأدوية، وبشكل روتيني، بحجة أن في ذلك مصلحة عسكرية، مما أدى إلى تعرض السكان عموماً إلى ما يشبه المجاعة، وإلى انتشار وباء الكوليرا وغيرها من الأمراض السارية. وهؤلاء الذين نتحدث عنهم جيران، لا تكاد تميز بعض عن بعض من حيث الشكل، وبينهم من الأواصر العائلية ما هو موغل في القدم، وإن كانوا اليوم في خلاف سياسي شديد.
ولعل تشتيت العائلات وتمزيقها هو أقسى ما يتعرض له الناس وأكثر العواقب دماراً على الإطلاق.
صرح وزير الخارجية السعودي في واشنطن بأنه لا يوجد حصار تام، وذلك لأن الخطوط الجوية والبحرية ماتزال مفتوحة. يقر القطريون بذلك، ويقولون إن ذلك صحيح، وأن ما يفرض عليهم ليس حصاراً مطبقاً. يتمتع القطريون بثراء كاف يمكنهم من إيجاد مصادر بديلة للمواد التموينية، ولذلك فإنهم لن يجوعوا. إلا أن الحقيقة التي لابد من التذكير بها في هذا السياق هي أن قطر كانت تجلب ثمانين بالمائة من وارداتها من الأطعمة عبر موانئ وطرق الدول المجاورة لها مباشرة، وهي الدول التي أغلقت كل الأبواب في وجهها دون سابق إنذار. هذا مع ضرورة التأكيد على أن دخول الأغذية والأدوية ضمن قائمة العقوبات يعتبر أمراً غير مألوف في زمننا هذا بل وإجراءً في غاية القسوة والتوحش.
ثالثاً، لقد صدمتني حدية المطالب التي يراد فرضها على دولة قطر، ونفس الأمر ينطبق على اليمن كذلك. لعله يقصد من قائمة المطالب هذه أن تشكل موقفاً يسمح بالمساومة، لا مفر من أن ننتظر لنرى ما الذي ستفضي إليه الأمور. إلا أن الاستجابة لهذه المطالب بكل حذافيرها، وكما هو منصوص عليه، ستشكل تنازلاً هائلاً عن السيادة الوطنية. فقد يتطلب ذلك حل (أو إعادة نظر شاملة في) مؤسسات الدولة، وتغيير كامل في السياسة العامة، والتخلي عن حلفاء وعن تحالفات مضى عليها عقود من الزمن. تعتبر هذه الطلبات من الناحية السياسية والاجتماعية أكثر تشدداً من وثائق الاستسلام التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على نظام صدام حسين في العراق في صفوان عام 1991 بعد واحدة من أفدح الهزائم في التاريخ العسكري. حينها، لم تجر محاولة للإملاء على العراقيين ما الذي بإمكانهم أن يقولوه أو ما الذي يسمح لهم باعتناقه من أفكار، أو من الذين يصرح لهم بمصادقتهم. ما نحن بصدده يكاد يكون عملية تغيير للنظام، حتى لو لم يصرحوا أن تلك هي الغاية التي يسعون لتحقيقها.
يشترط في واحد من هذه المطالب أن يعود جميع مواطني الدول المتأثرة إلى أوطانهم حتى لو كانوا يقومون بأعمال مشروعة وحتى لو كانوا مقترنين بأزواج من مواطني واحدة من الدول المخاصمة. يبدو لي أن هذا نوع من العقوبات الجماعية التي لا علاقة لها بالجريمة المزعومة. لكن لحسن الحظ يبدو أن ثمة تخفيفاً لبعض هذه العقوبات حينما يتعلق الأمر بالأفراد، والذين ينبغي أن نذكر بأنهم كانوا حتى وقت قريب يعيشون ضمن منطقة توشك أن تشكل وحدة سياسية واقتصادية. إذا كان مواطنو الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي يعاملون بهذا الشكل بسبب نزاع سياسي داخلي، فما الذي يمكن أن يستنتجه المرء من ذلك حول طبيعة مجلس التعاون الخليجي ذاته؟
وفي تنسيق واضح بين زعماء الدولة المشاركة في الحصار ما لبث أن صدر عنهم إعلان يحذر كل من يعبر عن تعاطفه مع قطر أو يعرب عن عدم موافقته على الإجراءات المتخذة ضدها، بأنه قد يتعرض للسجن ما بين خمسة إلى خمسة عشر عام. بادر أحد المحامين المختصين في مجال حقوق الإنسان في البحرين بتحدي الإجراءات المتخذة ضد قطر معتبراً إياها مناقضة لما ينص عليه دستور البحرين، فألقي القبض عليه مباشرة، وها هو الآن قابع في السجن.
وكل هذا يجري بحجة مكافحة الإرهاب. كنت دائماً أقول لطلابي الذي يعدون أنفسهم للعمل في مجال العلاقات الدولية والسياسة الخارجية أنهم إذا كانوا ينزعجون من النفاق والمبالغة في المجاملات فقد اختاروا مجالاً لا يناسبهم ومهنة لن تروق لهم. ومع ذلك، وفي ضوء خلفية وتاريخ هذه الممالك الخليجية فاحشة الثراء، فإن من الصعب جداً القبول هكذا ودونما تمحيص بأنه بات لديها هذا العزم المستحدث من قبل حكامها على إلحاق الهزيمة بالإرهاب من خلال إذلال جارة صغيرة لهم كل ما تختلف فيه معهم أساساً هو احتفاظها بحلفاء وأصدقاء قد لا يروقون لهم. لدى قطر تاريخ مختلط من حيث التعامل مع الجماعات الإرهابية، ولا يوجد أدنى شك في أن قناة الجزيرة التابعة لها تسببت في إزعاجات لجيران قطر بلغت حد إثارة حنق وغضب الملوك والسلاطين. ولكن من يرمون قطر بالحجارة هم أبعد الناس عن البراءة. وعليهم توخي الحذر من أن العقوبة تكون من جنس العمل، وأن ما يقومون به قد يفتح جراحاً سيكون من تداعياتها إلحاق أضرار دائمة بالحالة الصحية للتعاون الإقليمي.
وأخيراً، وهنا أتحدث بوصفي أمريكياً، يقلقني جداً أن بلدي فيما يبدو تمنح دعمها لهذا الحصار بعد ما بدا تصرفاً متسرعاً لم يأخذ بعين الاعتبار مصالحنا القومية وقيمنا. إلا أن المظاهر قد تكون خادعة. فعلى الرغم من كلمات الرئيس ترامب التي عبر من خلالها عن انحيازه العلني والصارخ إلى جانب من دبروا الحصار وينفذونه، مضت البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) قدماً في توقيع عقد لبيع طائرات مقاتلة إلى قطر، مشيدة بالإمارة الصغيرة لما هي عليه من "التزام مستمر بالحفاظ على استقرار المنطقة"، ومعبرة عن امتنانها لاستضافتها قاعدة العديد الجوية الضخمة التي تدار منها جميع النشاطات الجوية للولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك هجمات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية. يضاف إلى ذلك أن سفينتين حربيتين أمريكيتين رسلتا مؤخراً في ميناء داخل الدوحة للمشاركة في تمرينات عسكرية مشتركة مع البحرية الأميرية القطرية حديثة النشأة. من الواضح أن للولايات المتحدة الأمريكية مصالح مهمة قد تتأثر بهذا النزاع، ومن المؤكد أن الشقاق بين مجموعة من أهم حلفائنا في المنطقة لن يعود على هذه المصالح إلا بالضرر.
مجرداً مما أحيط به من مبالغات، يبدو الحصار السعودي الإماراتي تصرفاً أرعن لاثنتين من أكبر وأثرى الدول في المنطقة بهدف إجبار دولة أصغر على الانصياع لهما، مع العلم أن هذه الدولة الأصغر والتي اختارت انتهاج خط سياسي بديل هي أيضاً واسعة الثراء. لقد أدت الأزمة إلى شق مجلس التعاون الخليجي مناصفة ويبدو أنها تشير إلى أن العضوية في هذا النادي لا تعني التعاون بقدر ما تعني الطاعة العمياء للحاضرة السعودية. من الواضح أن الأمر يتجاوز كونه مجرد خلاف سلالي بين مراكز نفوذ متنافسة، وهو بذلك يثير تساؤلات جادة حول مستقبل هذه المؤسسة ذاتها.
يمكن أن يُفهم من
حصار الدوحة، وكذلك من الحرب التي تدور رحاها في اليمن منذ سنين، أن المملكة العربية السعودية تسعى لتشكيل امبراطورية محاطة بمجموعة من الدول التابعة التي لا تتمتع بأي مستوى من الحياة المستقلة فيما عدا ما ينعم به عليهم حكامهم، بمعني آخر نحن بصدد رؤية مجلس التعاون الخليجي يتحول إلى ما يشبه النسق الاستعماري الخليجي.
لعل من المفارقات المؤلمة حقاً أن كل هذا الذي يجري ما هو إلا واحد من التداعيات المباشرة للانتفاضة الشعبية التي انطلقت في العالم العربي قبل أقل من سبعة أعوام، والتي طالبت باستبدال الأنظمة الاستبدادية المنغلقة بأنظمة ديمقراطية مفتوحة.
لوبلوغ دوت كوم