انقسم أو توزع المشهد السياسي الفلسطيني في الفترة الماضية بين الانتخابات المحلية بالضفة الغربية التي وإن غابت عنها السياسة، إلا أنها قدمت على طريقتها وبشكل غير مباشر صورة عن المشهد السياسي الفلسطيني، الذي رسم بطريقة أكثر وضوحا ودقة في الانتخابات الطلابية لجامعة بيرزيت أكثر الجامعات الفلسطينية انفتاحا، تعددية وحرية للعمل الطلابي، والتي كانت انتخاباتها عادة الأكثر دقة لرسم المشهد أو الخارطة الحزبية في البلد.
لم تغب السياسة عن الانتخابات المحلية بسبب طبيعة هذه الانتخابات نفسها، أو كونها محلية، وإنما لغياب المنافسة عنها، وبعد قرار حماس – المبرر - بعدم خوض الانتخابات غابت عنها المنافسة السياسية، ولم تعد قيادة فتح مبالية أو حتى معنية بنتائجها. كما المرة الماضية أو تتحسس من تنافس بعض أعضائها السابقين كمستقلين، وهي تعاطت مع الانتخابات على أساس أنها منتصرة بمجرد إجرائها بغض النظر عن الرابح فيها، طالما أنه ليس خصمها الرئيس والمركزي حماس.
ومع ذلك فإن الاستحقاق البلدي أكد أن لا تنافس أوصراع فى ظل غياب حماس عن الساحة الانتخابية والأمر نفسه يمكن قوله عن حركة فتح أيضا، وغياب إحدى الحركتين عن أي معركة انتخابية يفرغها جديا من محتواها وحتى ينزع الطابع السياسي والحزبي عنها.
الوضع اختلف طبعا في الانتخابات الطلابية لجامعة بير زيت، الجامعة التي لا تمارس إدارتها أي شكل من أشكال التضييق على الطلاب، وليس للسلطة من نفوذ أو تأثير عليها، الجامعة التي مثلت تاريخياً البرومتر الحقيقي لقياس جماهيرية وشعبية الأحزاب والتنظيمات في الشارع الفلسطيني، وانتخاباتها الطلابية لم تكن يوماً نقابية مجردة، وإنما كانت وما زالت سياسية بامتياز.
في انتخابات جامعة بير زيت حضرت المنافسة السياسية بقوة لمشاركة حركتي فتح وحماس فيها، وهي أي الانتخابات باتت تقدم عاما بعد عام ما يشبه التحديث للمشهد السياسي الحزبي الفلسطيني بتجلياته، وأبعاده وجوانبه المختلفة.
نسبة المشاركة في الانتخابات هي نفسها تقريباً في السنوات الثلاث الماضية، وتتراوح حول الخمسة وسبعين بالمائة، وهي نسبة منخفضة نسبيا قياسا لكونها انتخابات طلابية، خاصة إذا ما تذكرنا الاستفتاء التركي الأخير الذي شارك فيه 86 بالمائة ممن لهم حق المشاركة، وحتى الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة التى بلغت نسبة المشاركة فيها قرابة 65 بالمائة.
ومن الواضح أن ثمة مقاطعة معتبرة أو تصويت بالأرجل وعدم رضى عن حركتي فتح وحماس، خاصة مع عدم وجود طريق أو خيار ثالث جدّي ومصداق وملموس لا يساري ولا إسلامي.
ممن شاركوا في الانتخابات -يمكن توقع أن البعض صوت فقط لغياب خيار ثالث جذاب- صوّتت نسبة تسعين بالمائة لصالح حركتي فتح وحماس، وهي نسبة ليست بعيدة عن نمط التصويت في الانتخابات التشريعية الأخيرة قبل عشر سنوات التي بلغت 85 بالمائة للحركتين، ما يعني أن المزاج السياسي للشارع هو نفسه، وحتى يزداد دعماً أو تأييداً للحركتين الرئيسيتين مع عجز الأطراف والتنظيمات الأخرى عن ملء الطريق الثالث الواسع والعريض.
الفارق في النتيجة لصالح حماس يتراوح حول نسبة خمسة بالمائة تقريباً، وللمرة الثالثة على التوالي تقريبا وهو وهو قريب كذلك من فارق التصويت النسبي مع فتح في الانتخابات التشريعية الأخيرة أيضاً.
حماس احتفظت بتفوقها إذن، وهذا أمر ليس بسهل او بسيط في ظل الضغوطات الأمنية الإسرائيلية، والواقع المعقد والمشكلات المتصاعدة في قطاع غزة حيث تحكم الحركة، وثمة قبول أو على الأقل تفهم شعبي واضح لروايتها، وبالتأكيد لا يمكن تجاهل جوهر التصويت السياسي، أي التصويت للخيار السياسي، الذي تتبناه الحركة المتمثل بخيار المقاومة بكافة اشكالها، ولا أعتقد أن الوثيقة السياسية التي أعلنتها أخيراً كانت لتؤثر على مزاج أو نمط التصويت في الجامعة والشارع الفلسطيني بشكل عام.
بالمقابل عجزت فتح وللسنة الثالثة عن الفوز أو هزيمة حماس. ورغم التقدم النسبي هذا العام في عدد المقاعد والذي جاء أساسا على حساب اليسار المتراجع إلا أنه لا يحجب حقيقة وجود أزمة عميقة سياسية وتنظيمية تعاني الحركة لتتجاوزها، خاصة مع العجز عن التأثير غير الديموقراطي على نتيجة الانتخابات والتصويت.
التصويت أو العقاب لفتح سياسي بالتأكيد كما هو معبر من جهة أخرى عن المشكلة التنظيمية، وترهّل قيادة أو قيادات الحركة والعجز عن استيعاب الطاقات والقيادات الشابة. وهنا يمكن الاستنتاج أن المؤتمر الأخير لم يحل مشكلة أو مشاكل الحركة بل فاقمها.
كما في كل عام، وكما هو الحال في الجامعات الأخرى تكرّس نتيجة بيرزيت أزمة اليسار العميقة في الجامعة، التي مثّلت معقلاً تاريخياً له، وهو لم يصل مجتمعاً حتى إلى نسبة العشرة بالمائة من المصوّتين، وظل يراح حول نسبة الـ8 بالمائة ناهيك عن عجزه عن بناء خيار وطريق ثالث جذاب، لرفع نسبة التصويت، وطبعاً هو عجز عن التوحّد كما هي العادة. وخاض الانتخابات بثلاث قوائم بعضها لم يحصل حتى على نسبة واحد، وحتى نصف بالمائة -كما كان الحال فعلاً في الانتخابات التشريعية الأخيرة- ومع الانتباه أن انتخابات بيرزيت هي مرآة أو ترسم صورة تقريبية للمشهد، إلا أن الواقع في الشارع أسوأ لليسار بعد انفصاله عن الناس، والعجز عن التغيير أو التأقلم مع المتغيرات إضافة إلى موقفه المشين من الثورات العربية، ودفاعه وتحالفه مع أنظمة الاستبداد الساقطة بحجة محاربته للفكر التكفيري.
الكلام نفسه يمكن قوله عن حركة الجهاد الإسلامي التي عجزت لسنوات، حتى عن إنزال قائمة تنافسية في بير زيت والجامعات الكبرى الأخرى -النجاح والخليل-، ما يظهر حالة الانهيار التنظيمي التام للحركة التي انطلقت أساساً من البيئة الطلابية، والعجز عن إنزال قائمة يترجم كذلك العجز عن بناء خيار وطريق ثالث جذاب خارج ثنائية فتح وحماس، وتبدو الحركة في السنوات الأخيرة عملياً خارج أي نقاش سياسي وعاجزة أو قاصرة عن طرح رؤى أو حلول وتصورات للوضع الفلسطيني، ناهيك عن الهرب من إبداء الرأي تجاه الثورات العربية والانضواء ضمناً في الحلف الأقوى المذهبي، الذي دمّر حواضرنا الكبرى في حلب الموصل التي مثّلت تاريخياً الخزان البشري لتحرير فلسطين، وتبدو الحركة الآن وكأنها أقرب إلى تنظيم أو جناح عسكري مع ناطقيين أو منابر إعلامية، ولكن دون جسم تنظيمي وجماهيري جدّي ومتماسك، ومع ترسيخ التهدئة كقاعدة للصراع مع الاحتلال تبدو الحركة بعيدة جداً وعاجزة عن التاثير على الواقع وتحولاته.
فى الأخير وللأسف لا تبدو الانتخابات الطلابية في بير زيت كما الجامعات الأخرى خطوة باتجاه إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة الرئاسية والتشريعية، التي تخشاها القيادة الحالية للسلطة وفتح في ظل واقعها المنقسم والمترهل، وترحب بها حماس المتماسكة ولكن بعد إجراء المصالحة التي تبدو بدورها أبعد من أى وقت مضى، مع إصرار أبو مازن على فرض الاستسلام على حماس، ورفض هذه الأخيرة لشروطه التعجيزية، وحتى رفض قيادتها الجديدة المتنفذة في غزة للانفتاح على معادلة الخروج من الحكم والبقاء في الحكومة التي تبدو هي بدورها بحاجة إلى التحديث، والخلاصة أن انتخابات بير زيت لا تعدو كونها تحديثاً سنوياً للمشهد السياسي الحزبي، وتأكيداً لثنائية فتح وحماس الباقية والمتمددة، لتراجع اليسار وانهيار الجهاد الإسلامى، وتعبيرا معنويا عن الأمل والطموح في مجتمع دولة فلسطينية حرة تعددية ديموقراطية لكل مواطنيها.