واجهت الولايات المتحدة خلال العقد الأول من هذا القرن صعوبات كبيرة في ما أسمته إدارة بوش الابن «الحرب على الإرهاب» وتحولت إلى حرب شاملة على المشرق الإسلامي وشعوبه.
الحرب التي بدأت بإطاحة حكم طالبان في أفغانستان، بحجة مواجهة تنظيم القاعدة، توسعت، شيئاً فشيئاً، لتطال العراق وفلسطين ولبنان واليمن وحدود باكستان الأفغانية.
تعهد الأمريكيون الحرب مباشرة في بعض الأحيان، وتعهدها حلفاؤهم في أحيان أخرى. أوقعت الحرب خسائر فادحة بشعوب المشرق، وخسائر أخرى بالأمريكيين وحلفائهم، وانتهت بدون أن تحقق نتائج حاسمة. وكان طبيعياً، بالتالي، أن تتبنى إدارة أوباما مقاربة مختلفة، وأن تدشن انسحاباً ملموساً، وليس كلياً، على أية حال، من سياسة الحرب الشاملة والتدخل التي تبنتها إدارة بوش.
في الوقت نفسه، وبالرغم من أن روسيا كانت تعيش حقبة انتعاش اقتصادي كبير بفعل ارتفاع أسعار موارد الطاقة، فقد أصبح أمن «الخارج القريب» الهم الرئيس لحكومة بوتين.
توسع حلف الناتو الحثيث في وسط وشرق أوروبا، وسلسلة من الاضطرابات في وسط أسيا وشمال القوقاز، مثلت تحديات مباشرة لوضع روسيا الاستراتيجي ومحيطها الجيوسياسي؛ ولم يكن باستطاعة روسيا العودة إلى سياسة التدخل السوفياتية في الشرق الأوسط بينما هي مهددة في جوارها الحيوي.
في 2011، اندلعت سلسلة من الثورات العربية، التي كشفت عن وصول نظام ما بعد الحرب الأولى الإقليمي إلى نهاية الطريق، وعن مضي الشعوب العربية نحو تسلم مقاليد أمرها، بدون عقد ومرارات أو قطيعة مع العالم.
لم تطلب الشعوب عوناً من القوى الدولية، ولا قبلت تدخلاً خارجياً في شأنها الداخلي. وبدا، بفعل تبلور أولويات مختلفة للولايات المتحدة روسيا، أن عصراً جديداً يولد في المشرق، عصر استقلال القرار ومبادرة دول المنطقة إلى حل قضاياها وخلافاتها بمعزل عن عبث القوى الكبرى.
كانت تركيا تعيش نهضة اقتصادية وسياسية لافتة، وتعيد توكيد دورها على مسرح الإقليم والعالم؛ وهو ما وفر مثالاً لإمكانية النهوض والتجديد الذاتي واستقلال القرار.
ولكن آمال السنوات الأخيرة من عقد القرن الأول والنصف الأول للعقد الثاني لم تعش طويلاً.
تحالفت دول عربية مع قوى النظام القديم في دول الثورات العربية، وأطلقت حراكاً مضاداً هائلاً وباهظ التكاليف، بداية من مصر، أكبر الدول العربية، والدولة التي جسدت عملية التحول الديمقراطي واستقلال القرار، ومن ثم تونس ولبيبا.
وفي الوقت نفسه، تعهدت إيران مشروع الثورة العربية المضادة في سوريا والعراق، ومن ثم اليمن.
ولكن الدور الإيراني في استدعاء الخارج كان أخطر بكثير من مجرد تقديم الدعم لنظامي الأسد والمالكي وللحوثيين.
في محاولتها إيقاع الهزيمة بثورة الشعب السوري والحفاظ على نظام الأسد، رفضت إيران محاولات تركيا والسعودية وقطر (ومصر مرسي) التوصل إلى تفاهم إقليمي على مستقبل سوريا، ودفعت بحزب الله إلى قلب الساحة السورية.
وعندما أصبح واضحاً أن الحزب لن يستطيع تحمل أعباء المواجهة مع الشعب وقوى المعارضة، استدعيت ميليشيات شيعية من العراق وباكستان وأفغانستان، وأخذت أعداد الضباط الإيرانيين في سوريا في التزايد.
مع النصف الثاني من 2015، لم يعد ثمة شك أن حرب إيران وحلفائها ضد الشعب السوري في طريقها إلى الفشل. وهنا، قام الإيرانيون، بالتوافق مع نظام الأسد، بفتح أبواب سوريا للتدخل الروسي المباشر.
لم يكن التدخل الإيراني في سوريا هو المشكلة الوحيدة للسعودية ودول الخليج العربية. كانت حروب بوش بالغة الغباء في المشرق خلقت مناطق فراغ للقوة منذ 2001، عملت إيران، في اندفاعة متسرعة، على التوسع فيها.
حاولت إيران تأسيس نفوذ لها في أفغانستان ما بعد طالبان؛ عملت، ولم تزل، على التحكم بدولة عراق ما بعد الغزو والاحتلال؛ دعمت حزب الله في سيطرته على قرار الدولة اللبنانية؛ وشجعت مشروع الحوثيين الغبي للسيطرة على اليمن.
ما رأته الكتلة التي تقودها السعودية، وأغلبية الشعوب العربية، أن إيران تجاوزت حدود مصالحها المشروعة بكثير، وأن توظيفها السلاح الطائفي بات مصدر تهديد لاستقرار المنطقة ودولها.
وبدأت، من ثم، معركة مواجهة مشروع التوسع الإيراني، ومحاولة تحريض الحليف الأمريكي التقليدي على خوض المعركة.
لم يكن لدى إدارة أوباما الحماس أو الاستعداد للعودة إلى تعقيدات الساحة الشرق الأوسطية، وذاكرة خسائر الإدارة الأمريكية السابقة لم تزل حية. بتولي ترامب مسؤوليات الحكم في الولايات المتحدة، تنفس معسكر مواجهة إيران الصعداء.
سبق لترامب أن عبر عن عداء لا يخفى لإيران وسياساتها أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، واختار عدداً من أبرز خصوم إيران لتولي حقائب الأمن القومي في إدارته.
ولأن ترامب يحتاج دعماً مالياً خارجياً لبرامجه الاقتصادية في الولايات المتحدة، وقع التقاء المصالح المتوقع، وعادت الولايات المتحدة إلى الساحة الشرق أوسطية كما لم تعد من قبل.
لم تستطع إيران، ولا استطاعت روسيا الانتصار في سوريا. حماية نظام الأسد من السقوط، لا يعني أن مستقبل النظام أصبح مؤمناً.
ولكن إيران خسرت موقعها ودورها في سوريا، بعد أن أصبحت روسيا صاحب القرار، ولم يعد مستبعداً أن تقوم حتى بدفع إيران وميليشياتها خارج سوريا كلية. في الجانب الآخر، ليس هناك ما يوحي بأن العودة الأمريكية الاحتفالية للشرق الأوسط ستقدم الكثير لخصوم إيران العرب.
لن تقود إدارة ترامب حرباً ضد إيران؛ وبالرغم من اللغة التي يستخدمها الرئيس الأمريكي، فإن التوسع الإيراني وصل مدة يجعل من الصعب التعامل معه بدون مواجهة فعلية. إن وقعت مثل هذه المواجهة، فعلى العرب أن يتحملوا العبء الأكبر.
يرتكز النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان والعراق والقطاع الحوثي من اليمن إلى قوى داخلية، قوى طائفية بالتأكيد، ولكنها تنتمي إلى شعوب هذه الدول؛ وهذا ما يجعل الملف الإيراني أكثر تعقيداً مما يمكن لإدارة ترامب تحمله.
تحتاج مواجهة التوسع الإيراني نفساً طويلاً، أطول بكثير مما يمكن لواشنطن المثابرة عليه. بكلمة أخرى، وكما خسرت إيران من عودة روسيا إلى سوريا، فقد لا يكون مردود استثمار مئات المليارات من الدولارات في عودة الحليف الأمريكي إلى المنطقة بحجم أكثر توقعات العرب تواضعاً.
هذه عودة مظفرة للقوى الكبرى إلى المشرق. في الفترة بين 2008 و2013، ولد أمل حقيقي في أن تصبح دول المشرق أكثر استقلالاً وأكثر قدرة على وقف تدخلات القوى الكبرى في شؤونها ومصير شعوبها.
من يخمد هذا الأمل اليوم هو أنظمة حكم دول المشرق ذاتها؛ ليس فقط لأنها رفضت التوافق العقلاني على حل قضايا المنطقة وخلافاتها، ولكن أيضاً لأنها اختارت الانقلاب على طموحات الشعوب وسعيها إلى امتلاك مصيرها.
ستعمل عودة القوى الكبرى إلى المشرق من جديد على تحقيق أهداف ومصالح واشنطن وموسكو، وليس أهداف ومصالح الأنظمة المشرقية الحاكمة. وإن كان هناك من أثر لهذا المتغير على أنظمة المشرق، فسيتجلى بالتأكيد في خسارة هذه الأنظمة لما تبقى من قدرتها على اتخاذ القرار، وعودة مصائرها إلى طاولة التفاوض ومساومات القوى الكبرى.