كما كان متوقعا تماما، لم تحمل انتخابات 4 ماي أي جديد في الخارطة السياسية، فقد فازت أحزاب الموالاة مجددا بالأغلبية الساحقة التي تتيح لها وحدها تشكيل حكومة، واكتفت باقي الأحزاب بمقاعد قليلة متفاوتة لا تقدم في البرلمان ولا تؤخر، وانهار العديد من الأحزاب المعارضة التقليدية، وتأجل التغيير مرة أخرى إلى موعد غير معروف.
كنا نودّ أن تفتح نتائج هذه الانتخابات عهدا جديدا يعيد الثقة إلى ملايين الجزائريين، والأملَ في إمكانية إحداث التغيير السلمي الهادئ والسلس عن طريق الانتخابات، كما يحدث في جميع الدول الديمقراطية التي تحترم حق شعوبها في انتخاب من تشاء، وبكل حرية وشفافية، ولكن دار لقمان بقيت على حالها، وأفرزت النتائج فوز أحزاب الموالاة من جديد، وكأن الشعب قد شَغُف بها حبا برغم كل ما ارتكبته في حقه من موبقات سياسية طيلة العهدة التشريعية المنقضية وما سبقها، وبذلك يتأجّل الحلم الديمقراطي سنوات أخرى، نأمل فقط ألا تمتدّ إلى "قرن آخر على الأقل" كما قال ولد عباس.
الحلقة المفرغة أضحت معروفة: النتائج النمطية لكل موعد انتخابي واحتكار أحزاب الموالاة للفوز تزيد الناسَ إحباطا ويأسا، وترفع نسبة العزوف في الموعد الانتخابي الذي يليه. وبالنتيجة، أضحت نسبة العزوف ككرة الثلج التي تتضخّم كلما دُحرجت، حتى وصلنا إلى انتخابات لا يشارك فيها سوى الشيوخ ونسبة من النساء، ويقاطعها الشباب بنحو 90 بالمائة من النِّسبة الإجمالية للمقاطعين، وهي نتيجة يجب أن تُقلق السلطة والأحزابَ معا.
هذا العزوف القياسي للشباب، هو أبلغ تعبير من هذه الفئة الكبيرة في المجتمع عن احتجاجها الصارخ على الأوضاع الحالية على المستويات كافة؛ السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، فعندما تفوز أحزاب السلطة بنتائج الانتخابات دائما، ويقول ولد عباس إن حزبه سيحتكر الحكم قرنا آخر على الأقل، وترفض السلطة فتح تحقيقات عن غزو المال الفاسد و"الشكارة" لقوائم مختلف الأحزاب، فينبغي ألا ننتظر من الشباب أن يزكّوا هذا الوضع القاتم بالمشاركة في الانتخابات بـ"قوة" و"كثافة". وعندما تنفق السلطة أزيد من 800 مليار دولار في غضون 15 سنة فقط، ثم تكون النتيجة أزمة مالية حادة وتقشفا خانقا وتفاقما للبطالة وتراجعا كبيرا لمستوى معيشة عامّة الجزائريين، فإنه لا يمكن أن ننتظر من الشباب سوى الحلم بالهجرة إلى روسيا وغيرها، وليس الانتخاب.
لقد بعث ملايين الشباب، من خلال عزوفهم القياسي عن الانتخابات، برسائل عديدة بليغة للسلطة وكذا لعشرات الأحزاب التي فشلت –بخطابها الباهت والمتكرّر - في إقناعهم بالاستجابة لدعوتها إلى المشاركة "القوية" في الانتخابات، وانتصرت أشرطة مواقع التواصل الاجتماعي على الآلة الإعلامية الكبيرة والأحزاب والجمعيات والأئمة والزوايا التي جُنّدت لإقناعهم بالانتخاب، وظهر الشباب "العازف" كحزب ضخم تتواضع أمامه قوة أيّ حزب في الساحة. وفي ذلك دروسٌ ودلالات عديدة ينبغي قراءتُها بعمق وبشكل صحيح واستخلاص العبر والرسائل الصحيحة منها؛ لاستدراك الأمر ومعالجته بالكيفية الصحيحة في أقرب وقت، فليس من المعقول أن يقاطع نحو 90 بالمائة من الشباب هذه الانتخابات ثم يُتعامل مع هذه النسبة القياسية بتجاهل واستخفاف!