قيل منذ أيّام إنّ موسكو أرسلت موفدا إلى طهران يحمل «اقتراحات» في شأن الوضع السوري، تشتمل على أسماء محدّدة لخلافة رئيس سوريا السابق بشار الأسد.. لم يقل أحد بعد ذلك، ماذا كان «الردّ» الإيراني. أو ما هو رأي صاحب السلطة هناك بالموقف الروسي المستجد.
لكن الإبهام لم يتأخر.. علنا على الأقل. وجاء التوضيح: الردّ والرأي، على لسان قائد القوة البريّة في «الحرس الثوري» العميد محمد باكبور بالأمس، وفيه ما لا يفاجئ ولا مَن يحزنون: «سنواصل إرسال المستشارين العسكريين إلى سوريا لتفادي ضرب خط الأمام لجبهة المقاومة (...) موجودون حاليا. وسننشر المزيد طالما الحاجة قائمة للمشورة».
وهذا كلام واضح ومُرسل في اتجاهين. واحد باتجاه موسكو وطروحاتها المستجدة وتوجّهها إلى ترجمة ما قاله وزير الخارجية سيرغي لافروف في الأسبوع الماضي عن «الاستعداد للتعاون مع واشنطن».. والثاني باتجاه واشنطن الذاهبة إلى، والعاملة على محاربة النفوذ الإيراني في سوريا وغيرها!
وما كان لأحد أن يتوقع أي شيء آخر على كل حال. وطبيعي أنّ موسكو أوّل العارفين مسبقا، وبالتفاصيل والعموميات، بالموقف الإيراني في سوريا وإزاء الأسد. وكيف أنّ «المرشد» يعتبر الحرب هناك مسألة حياة أو موت، و«يتابعها» شخصيا، ولا يتراخى أو يكلّ في هذا!
ومع ذلك، «اقترحت» موسكو! وذهبت بعيدا في «مرونتها» في ضوء مستجدات الموقف الأميركي - الإسرائيلي! وكأنّها تنفض يدها سلفا من تطورات آتية! وتشدّد على تمايزها أكثر من السابق. وتُذكّر مرة أخرى، أنّ سقفها السوري، هو مصالحها القومية العليا، وليس بشار الأسد ولا الأجندة الإيرانية المطّاطة المشتملة تارة على «حماية المقدسات»، وتارة على «حفظ خط المقاومة» أو على إشاعة أنوار «ولاية الفقيه»، أو على ضمان اكتمال وحماية قوس النفوذ الإقليمي الممتد من شواطئ شط العرب إلى شواطئ المتوسط..
ما يهمّ الروس في سوريا هو غير ما يهمّ الإيرانيين. نقطة التقاطع بينهما وقفت عند حدود إسرائيل وأمنها! وعند حدود الأتراك ومصالحهم! وعند حدود الحضور الأميركي ومتطلّباته ووطأته. وهذه في أبسط الحسابات، أهمّ وأكبر من «مصير» رئيس سابق اسمه بشار الأسد! أو من طموحات إيرانية مستقاة في جذورها، من «حالة» لا تفرّق موسكو في الأخير، بينها وبين جذور المتأسلمين التكفيريين!
لكن طبيعي في المقلب الآخر، أن لا يكون أمام إيران غير خيار متابعة الأداء نفسه في سوريا! ما يُعرض عليها ليس هوَ ذاته ما يُعرض على روسيا. والخيارات المطروحة أمامها (وليس عليها) تتراوح بين عزلها ومحاربتها وفق أجندة إقليمية (عدا المحلية السورية) أو التسليم بواقع آخر سيندرج في المحصلة، في سياق التفاهم أو التعاون الذي عرضه لافروف على واشنطن، والذي تعرف طهران أنّها لن تستطيع كسره بالقوّة أو بالهيّن!
.. لكنها ستجرّب المعاندة. وذلك سيؤكد ما فيها: شاطرة في التكتيك وفاشلة في الاستراتيجيا. تربح معارك وتخسر الحروب. تعرف كيف تهجم ولا تعرف كيف تنسحب. وعندها عشق أبدي للتوقيت الخطأ.
منذ حرب الخليج الأولى مع العراق ولحظة «تجرّع كأس السمّ» إلى حرب «المشروع النووي» ولحظة الاتفاق الذي أفشله.. وما بينهما تلك الاستحالات المتفرّقة للسيطرة على «عواصم» المنطقة. من اليمن إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان! والتي لم تعنِ شيئا سوى خراب بدأ يلامس كيانها!
«تجربتها» في اليمن تكسّرت. وفي العراق تبعثرت. وفي البحرين اندثرت. وفي الخليج العربي عموما والسعودية خصوصا أُجهضت ولُجمت. وفي لبنان وصلت إلى حدود «السهر المقاوم» على رعاية أمن الحدود في ظل القرار 1701.. وفي سوريا زبدة الاستنزاف والفتنمة والحصاد الذي آل إلى غيرها.. والآتي أعظم!
لو تختصر كلّ ذلك البلاء وتتجرّع كأس الواقعية ولو لمرّة واحدة.. وفي سوريا بداية!