تطاوين تضع أصبعها في عين الدولة المتعامية عن شعبها. تطاوين هنا وتقف موقف الحق: "نريد الكرامة عبر التنمية الخلاقة والتشغيل المجزي"، والإمكانيات على الأرض متاحة لمن يريد. بسلمية وتحضر ورقي ينتفض الشارع في تطاوين (ولاية/ محافظة في الجنوب التونسي)، مثلما انتفض في منطقة جمنة (محافظة قبلي) وقدم الحلول الراقية باعتماد الإمكانيات المتاحة منهيًا مطالب تسوّل الأطراف القصية المقصاة من المركز المتعامي عن الحلول ويروج أرقاما زائفة عن نجاحاته بواسطة وزراء تجار لا هم لهم إلا تحقيق مجدهم الشخصي عبر الظهور الإعلامي والشقشقة في بلاتوهات الإعلام المنحاز ضد الثورة منذ يومها الأول.
الجنوب المتهم
الجنوب التونسي منعوت بأنه منطقة صحراوية قاحلة وفقيرة وقد وضعت الخطط التنموية الأولى على هذا الأساس المحبط الذي كانت نتيجته تفقير الجنوب من سكانه ونزوحهم إلى العاصمة والساحل بحثا عن رزق عسير. فالفلاحة في الجنوب غير ممكنة نتيجة الجفاف، والتصنيع مستحيل بالنظر إلى بعد الشقة وعسر النقل وكلفة مد الطرقات كانت مبررات مقنعة لمن وضعها، ولكن عبر الزمن تبين أنها دليل سوء نية تجاه المنطقة التي أخضعها الاستعمار المباشر لإدارة عسكرية تامة منعا لأهلها من كل تمرد محتمل. فمعرفته بها جعلته يحذرها ويكبتها. والدولة الوطنية واصلت نفس السياسة وإن أخفت الوجه العسكري البغيض. ستون عاما والجنوب مفقر وكان كل احتجاج مهما صغر يدمغ بالخروج عن الصف الوطني ويجعل أهل المنطقة يخشون تهم الخيانة الوطنية. فتحول الأمر إلى ما شبه عقدة خوف على الوطن أعجزت ساكنته دون حقهم المشروع في الانتماء الكامل.
الثورة حررت لسان الجنوب ولكن كل تحليل لفقر الجنوب بربطه بإرث السياسة الاستعمارية الطويلة كان يُجرّم ويُتهم بالخيانة لذلك أجل أهل الجنوب مطالبهم دوما. التصويت في انتخابات 2014 بكثافة للمرزوقي أرعب حكام الشمال ومرشحهم الذي لم يضع قدمه في الجنوب حتى إن الخوف انتقل إلى المرشح المرزوقي فلم يذهب إلى قاعدته الانتخابية حتى لبرتوكول شكر انتخابي مما يفعل المرشحون عادة بعد ظهور النتائج. ففي المرات التي ظهر فيها هناك للعلاج المجاني وهو طبيب اتهم بتحريض الانفصال الجهوي.
الرد الشعبي على الإرهاب المتسرب في بن قردان أجبر من يتهم الجنوب بشق الصف بالانحناء للعاصفة الوطنية ثم تمييعها في احتفالات باهتة ونصب سخيفة ليواصل احتقار المنطقة وتفقيرها معتمدا مقولة بورقيبية قديمة "جوّع كلبك يتبعك"، لكن تطاوين تبدو عازمة على إنهاء الأمر.
الإمكانات التنموية في الجنوب التونسي عامة وفي تطاوين خاصة
الجنوب التونسي يمكنه أن يتحول إلى منطقة زراعية متطورة باعتماد عناصر طبيعية متوفرة أولها أراض خصبة لم تزرع منذ خلقها الله إلا في مواسم المطر وهي قليلة، ولكن الجنوب عامة يعوم فوق بحيرات من المياه العذبة على أعماق مختلفة سطحية وعميقة وعميقة جدا. فيها البارد الحلو وفيها الحار المولد للطاقة. فضلا عن ذلك فإن السهول المنبسطة ممتدة على مناطق شاسعة ويسهل استصلاحها بلا كلفة وفوق هذه الأرض يعيش بشر كثير وفي سن العمل بعد، ويمكن جمع هذه العناصر إلى بعضها لخلق تنمية مستدامة خاصة إذا تم اعتماد الطرق الحديثة للزراعة غير المستهلكة للمياه بكثرة مثل الزراعات تحت البيوت المكيفة باعتماد الري الاقتصادي بحيث يتم إعمار الأرض واقتصاد الماء وهناك تجارب عبقرية نجحت فعلا مثل تجربة الفصل الخامس بمنطقة الحامة (محافظة قابس) وتجربة زراعة الورد للتصدير بمنطقة نكريف (مدنين).
توجد معضلة قانونية في تخصيص الأراضي وإقراض أصحابها للبدء في العمل وهي معضلة تهرب منها الاستعمار للإبقاء على السكان في حال النمط الرعوي السائب، وواصلها بورقيبة قصدا ثم جبن نظام بن علي دونها متذرعا بالخوف من الاحتجاج القبلي على تفكيك أراضي العروش. وكان هذا أحد مطالب الثورة التي تجبن دونها الحكومات المتتالية، من بعدها معالجة الأمر عن طريق الترضيات المؤقتة.
أما تطاوين فتزيد فوق ما ذكر ثروات باطنية كبيرة منها النفط والغاز حيث يتم استغلاها دون تشريك أهل المنطقة خاصة لجهة التشغيل. فأغلب عمال وموظفي الشركات النفطية يجلبون من مناطق أخرى بينما يمر النفط والغار بالمنطقة في قنوات مطمورة لا يراها المحليون إلا يوم ردمها تحت الأرض.
وإلى ذلك تحتوى المنطقة على مناجم كلسية صالحة لصناعة الإسمنت أو الجير الصالحين للبناء ولأغراض متعددة وبكميات قادرة على تشغيل الكثيرين. لكن الاستثمار العمومي في المنطقة لا يأتي أبدا فضلا عن الاستثمار الخارجي لأن البنى التحتية في المنطقة معدومة تقريبا ويجب البدء من صفر.
الجنوب عامة وتطاوين خاصة مناطق زراعية وصناعية وسياحية قل نظيرها ولكن الدولة والحكومات المتعاقبة عليها تتجاهلها وتنفيها وتتهمها عند الاحتجاج بالخيانة الوطنية. الأمر إذن مدبر وليس عفويا وأهل تطاوين الآن معتصمون بأزقتهم لوضع حد لهذه الحالة ومناطق الجنوب، وقراه ومداشره تراقب الوضع ويحتمل أن تتحرك مع تطاوين في أي لحظة وما يصيب تطاوين يصيبهم. لذلك فالأمر جلل.
الحل لن يكون بيد هذه الحكومة
بات واضحا للعيان أن حكومة السيد الشاهد عاجزة عن إحداث اختراق تنموي في المنطقة الجنوبية برمتها ولو في صيغة ليبرالية متوحشة. إنها تفتقد إلى الشجاعة أكثر مما تفتقد إلى الإمكانيات. ولا يمكن للمحتجين إلا أن يؤولوا عجزها بسوء النية فهي تواصل عمل من سبقها في تجاهل المنقطة وأهلها خاصة بعد الزيارة التمويهية التي أدّاها فريق حكومي غير مخوّل بأي قرار لصالح المنطقة. بل إن الحكومة تواصل سرقة ثروات المنطقة تحت جنح الظلام بواسطة شركائها الاقتصاديين المناولين عند كبرى شركات النفط والغاز الدوليين.
الاحتجاج الاجتماعي الجنوبي (البعض يطلق عليه الحراك الجنوبي ليسهل دمغه بالانفصال على غرار الحراك الجنوبي في اليمن) على حق ومطالبه بينة لمن يريد الاستجابة لها. وهو يلتحم بهدوء مع حراك منطقتي الفوار وجمنة المطالبتين بالحق في الثروات الطبيعية بالمنطقة. واحتمالات اتساعه وشموله كل المنطقة وارد جدا في قادم الأيام مهما عملت الأحزاب الحاكمة خاصة حزبي النداء والنهضة على تبريده وتجاهله إعلاميا.
تطلق الأحزاب الحاكمة فرقعات إعلامية سخيفة ليتم شحن الناس وإلهاؤهم عما يجري في الجنوب لأن الحكومة ومكوناتها الحزبية عاجزة فعلا عن الاستجابة العقلانية لما يطلب منها. فالرد عليه يكلفها خطة تنموية جديدة ضمن منوال تنموي مختلف ومجدد، وهي أعجز من أن تفعل وكلما تأخرت كلما تسرب الرمل الجنوبي من تحتها إلى رياح أخرى قد تكون ناسفة لوجودها ولمسار وصولها إلى السلطة.
تطاوين تضع تونس على حافة التغيير؛ فإما قبول بالمطالب ضمن منظور تنموي جديد أو تجديد البلد برمته. ولن ينسى الرئيس الحالي ولا زمرته أن تحرير البلد من الاستعمار المباشر قد بدأ في جبال الجنوب وصحاريه وتطاوين كانت في قلب معركة التحرير. من لم يستشعر في انتفاض الجنوب حرب تحرير جديدة فقد فاته الفهم وخرج من التاريخ والجغرافيا.