المادة التاسعة من الدستور المصري تقول ما نصه: (تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز)، وفي المادة الثالثة والخمسين يقول نصها : (المواطنون لدى القانون سواء،وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون ..... تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز)؛ ولذلك كانت الصدمة كبيرة من السلوك الطائفي البغيض الذي تمارسه بعض المؤسسات الرسمية في ما يتعلق بمشكلة المهجرين من مدينة العريش وما حولها في شمال سيناء، بفعل الأعمال الإرهابية التي يقوم بها تنظيم داعش هناك وتعرض الكثير من المواطنين لخطر الموت والقتل بصورة بشعة، وكذلك هدم البيوت والتعرض للقصف بسبب الاشتباكات وغير ذلك مما يعانيه "المواطنون" المصريون هناك، مسلمون ومسيحيون، في تلك المنطقة الملتهبة من جسد الوطن.
هناك الآن آلاف الأسر المهجرة من شمال سيناء، معظمهم في محافظة الإسماعيلية، استمر تهجيرهم طوال العامين الماضيين، وما زال، دون أن تبذل الدولة أي جهد يذكر في مساعدة هؤلاء المهجرين، أو تقديم أي صورة من صور الدعم حتى ولو كان معنويا أو نفسيا، تركوا للمجهول، وكل مواطن وشطارته، وكل مواطن وقدراته، بعضهم نام في العراء ـ حرفيا ـ في بعض قرى الإسماعيلية؛ لأنه لا يجد مأوى أو جهة تستضيفه، لكن التطور الذي حدث مؤخرا بهجرة بعض العائلات القبطية من العريش جعل الدولة تصحو فجأة وتتذكر مسؤولياتها تجاه المواطنين، وعقد مجلس الوزراء اجتماعات وتوزعت مسؤوليات ونشطت وزارات وتحرك وزراء وذهبت وفود للاطمئنان والمتابعة، وظهرت الشقق والتبرعات والعطايا من كل الجهات، ونشطت الصحف القومية والتليفزيون الرسمي لتغطية "المأساة" والتعريف بالجهود التي تقوم بها الدولة لرعاية المواطنين المهجرين من شمال سيناء.
في كل تلك الجهود وتلك اللوحة الإنسانية "الجميلة" لا بد أن تتذكر أن الشرط الوحيد لكل ذلك هو أن يكون المواطن المهجر مسيحيا، وأن تكون الأسرة التي تحصل على كل تلك المساعدات والمعونات قبطية، هكذا بكل صفاقة وبرود، ودون أدنى إحساس بالخجل من ممارسة الدولة ـ رسميا ـ للتمييز الطائفي، الحكومة ممثلة في وزارة التضامن الاجتماعي أعلنت ـ بكل حبور ـ أنها وفرت عشرات الشقق السكنية بكامل أثاثها مجانا للأسر "المسيحية" المهجرة من العريش، وتتباهى الوزارة بأنها قامت بذلك العمل "النبيل" بالتنسيق مع الكنيسة الأرثوكسية، أيضا ما يسمى بمشروع "تحيا مصر"، الذي ترعاه الرئاسة أعلن عن تقديمه لمساعدات قدرها خمسة ملايين جنيه مصري للأسر "المسيحية" المهجرة من العريش، دون أن يطرف للقائمين عليه جفن، ودون أن يسأله أحد: وماذا عن الأسر "المسلمة" المهجرة من هناك.
مصر تعيش هذه الأيام تناقضات وعشوائيات ما يوصف بأنه "شبه دولة" على حد وصف رئيس الجمهورية، لكن لا يعقل أن تتجاوز "شبه الدولة" أسس الدستور الذي يقوم عليه النظام السياسي بكامله، والذي يجرم "التمييز" بين المواطنين على أساس الدين أو العرق، لا يمكن أن تتجاهل الدولة ومجلس وزرائها النص الدستوري الواضح الذي يتحدث عن أن "المواطنين سواء" وأن مسؤولية الدولة هي مطاردة أي "تمييز" وليس ممارسة التمييز والترويج له.
كثيرون يتحدثون عن أن "فواتير" 30 يونيه ما زالت تسدد، ولها أولويات حتى على الدستور نفسه لدى البعض في هذا البلد، ولكن المؤلم أن يتم ذلك على حساب مأساة إنسانية تدمي القلب لآلاف الأسر المهجرة من شمال سيناء بسبب الإرهاب، ومواطنين بلا ظهر، ذنبهم الوحيد أنه "مسلمون"، لذلك تتجاهلهم الدولة، وتدير الحكومة لهم ظهرها، ولا يكون له نصيب في صندوق "تحيا مصر".