كل شهر، أو أقل، لا ينسى صديقي الأسير في سجن (…) الصهيوني أن يتفقدني، يتصل بي، لا أعرف إن كان ذلك من داخل زنزانته، أم من الساحة في ظل غيمة أم تحت الشمس، يتصل بي، ليسألني عن كتابتي وصحتي، ويتفقّد حريتي.
ذلك يحدث منذ ستة أشهر، حين كتب لي سجين محرر، وأخبرني: «الشباب في السجن حابين يحكوا معك. يحتاجون إلى رقم هاتفك». وأرسلت له الرقم، ولم يطل الوقت، اتصل صديقي، اتصل، ولم يكن مطمئنا أنني سأجيب على تلك المكالمة من هاتف غامض، لكنني أجبت، وبعد أن تحدثنا قليلاً، سمعته يقول: قلت لكم، سيُجيب، أرأيتم؟!
طويلا امتدت المكالمة، نصف ساعة على الأقل، كنت أستمع إليه كما لو أنني أتحدث مع بشر للمرة الأولى، بعد مئة عام من العزلة، وكان يتحدث بفرح، ويقول: «لقد استطعنا الحصول على نسخة من الرواية التي أوصيت بقراءتها، عددنا أربعة وثمانون سجينا هنا، وتلك مشكلة، اتفقنا أن نوزع أنفسنا على اثنين وأربعين مجموعة، كل مجموعة من اثنين، يقرأ الأول حين يكون الثاني نائما، وهكذا.
أنهيناها، أنهيناها أخيرا، وكنا فرحين.
.. لا يريد الصهاينة أن يُدخلوا أكثر من نسخة، لا بأس، ولكننا تصرفنا. أخبرك أنهم مزقوا خارطة فلسطين الموجودة في الرواية، كأنهم يعتقدون أنهم حين يمزقونها فإننا لن نعرف أين نحن! كأنهم يعتقدون أننا لن نعرف فلسطين. أي غباء هذا؟! لكننا فعلناها، وقرأنا الرواية، قرأناها جميعا».
قال لي: «إن إدارة السجن تسمح بدخول الكتب إلينا لأسبوع أو أكثر، ثم لا يسمحون بدخولها بعد ذلك، لكنهم يواصلون التباهي بأن إسرائيل دولة ديمقراطية، ويرددون: نحن لا نمنع دخول الكتب! وهم يقصدون تلك الفترات المتقطعة».
يسألني كيف يمكن للشباب أن يكتبوا، وهم الذين لم يسبق لمعظمهم أن مارس الكتابة؟ أجيبه. وفي الشهر التالي، يقول لي، إن الشباب سعيدون بنصيحتك، الوضع بات أفضل، ونفسياتهم أفضل، إنهم يكتبون كل ما يحسّون به، كما قلت. ولا ينسى أن يحمل مباركتهم، أعظم مباركة: إنهم يهنئونك بالفوز بالجائزة، لكن أحب أن أقول لك إن الرواية لم تصلنا بعد. أعده أن أرسلها، فيقول بحزن: «هناك كثيرون يحبون أن يوصلوها إلينا لو طلبنا منهم ذلك، لكنها لن تصل. الأمور تسوء يا أستاذ في الفترة الأخيرة، لكنك تعرف أننا لا نستسلم. المهم أن يكون الضمير مرتاحاً، وإذا كان كذلك، فستكون المخدة التي ننام عليها مريحة، سواء كانت من قش، أو من ريش، أو حتى الحذاء البالي.
أتعرف يا أستاذ، كنا نتحادث في ما بيننا، وأنت تعرف أننا من تنظيمات مختلفة، ومعتقدات مختلفة، تذكرنا ما جاء على لسان الأم، في تلك الرواية الثانية التي نصحتنا بقراءتها: «مش عارف على إيش بتتقاتلوا، ماهوِّ، إذا كُنت مع (حماس) إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع (الجِهاد) إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع (فتِح) أو مع (الشّعبية) أو (الدّيمقراطية) إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع المقاومة إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع الاستسلام إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع أبو عمّار إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت ضده إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت بتفتح الشِّباك على شان تشوف شو صاير، بيجي قناص وبُقتلك. وإذا كنت ماشي في الشارع أو نايم في بيتك وبس في حالك، بيجي صاروخ من السّما وبقتلك! وعلى إيش إنتوا بتتقاتلوا والله ما اني فاهمة؟!». قرأ هذا أحدنا، فخجلنا من اختلافاتنا.
غريب كيف يمكن أن تجمعنا الكتب يا أستاذ، إنها تجمعنا أكثر من أي شيء آخر، حتى وإن اختلفنا معها. أتذكُر؟ لقد قلت لي، إقرأ أي كتاب يصل إلى يديك، سواء كنت معه أو مخالفاً له، صرت أفعل ذلك، ويفعل الشباب، لقد حكَّتْ الكتبُ المخالفة عقولنا وأيقظت فيها أشياء كثيرة، تماما، كالكتب التي نحبها.
«الشباب يسلمون عليك، ويقولون لك شكراً على النصيحة، مع أنني سأعترف لك أنني شككت فيها في البداية، قبْلهم، لكنني قلت لنفسي، لم لا تُجرِّب، فما الذي ستخسره، أنت في السجن، والسجن صراع، صراع مع كل شيء يا أستاذ، مع الزمان والمكان، ومع السجان، ومع نفسك ومع غيرك، مع الغيمة التي أخفت الشمس، وعجلت الغروب، ومع الغيمة البخيلة التي لم تمطر وحرمتك صوت المطر على نافذتك الصغيرة.
أطمئنك، الوضع أفضل الآن، ولكن، كيف أنت طمنّي عنك؟
تسألني عن نفسي، وعن الشباب، اطمئن، الأمل موجود دائماً، وسنلتقي، أعدك أن نلتقي. بالنسبة لي؟ لا لم أيأس أبداً، أنا محكوم بسبعمئة واثنين وثمانين عاما. لا، لا أبالغ، القاضي الذي أصدر الحكم هو الذي كان يبالغ حين أصدره، حين تصوّر أنه سيعيش حتى يراني أُكمِل المحكومية، وأن دولته ستعيش إلى أن أكمل المحكومية. إنني أضحك، أجل أضحك، لا تستغرب ذلك، كم من إمبراطورية ماتت خلال سبعمئة واثنين وثمانين عاماً مضت؟ ألم تقُل: إن عمر الرجال أطول من عمر الإمبراطوريات؟ صحيح أننا نحبك، ولكننا نحسُّ بهذا حتى لو لم تقله، كل ما في الأمر أنك لفتَّ انتباهنا، وذكَّرتنا بشيء جميل كهذا ننساه أحيانا.
تسألني كم أمضيت في السجن؟
أمضيت حتى الآن إثني عشر عاماً من محكوميتي.
هل رأيت؟ الأمل موجود، إنني حي، لقد عشت إثني عشر عاماً، والسّجان ماتها..
لا عليك، دير بالك على حالك، أمانة، هذه وصية الشباب».
وبعد:
.. وفي قَعْرِ يأْسي ويأسِكَ كانَ الأملْ
وما خلفَ قُضبانِ سجني وسجنِكَ كانت سماءْ
في حصاري.. حصارِكَ، كان لنا شاطئٌ وجبلْ
ومواعيدُ رائعةٌ مع خيولٍ وأحلى نِساءْ!
بعد ستينَ عاماً كما تعرفُ الآنَ لمّا نَزَلْ
نعيشُ هناكَ ونحرثُ تلكَ الحقولَ نُمشِّطُ شَعْرَ الهواءْ
ننامُ ونصحو ونعرفُ ما يَلزَمُ الرَّقصَ من خُطواتْ
وما يملأ الرُّوحَ من وَلَهٍ دافقٍ وغناءْ
كلَّ يومٍ نوسِّعُ، ثم نوسِّعُ هذا الطريقْ
كلَّ يومٍ على ولَدٍ طيِّبٍ يُطلِقونَ رصاصاتِهم
والدّماءُ هنالكَ تعلو.. وتعلو
وهمْ في المَضيْقْ!