هذه العبارة لمذيعة بالفضائية اللبنانية الجديد، قالتها في معرض تعليقها على مسيرة القادة السياسيين الباريسية، التي نظمها الزعماء المتعاطفون مع فرنسا، احتجاجا على ما وقع لصحيفة "شارلي إيبدو"، التي هوجمت من طرف مسلحين، إثر نشرها لصور كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم.
اللعنة على عدالة يقودها مجرم، إنها عبارة بليغة جدا، بلاغة الصادق في إظهار الحقيقة عندما يتجاهلها الناس، المتضررون منها والمستفيدون، وتكون هذه العبارة أبلغ عندما تصدر من مذيعة في قناة مسيحية، في معرض هجاء لجهة تسيء لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن ما يتغنى به العالم المتعجرف ويتشدق به، ويتشوق إليه عالم المستضعفين فيه، هو الحرية والعدالة والكرامة وحقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق الدفاع عن النفس والعرض والمال.. ولكن الذي يقود هذه "التغنيات" ومن ورائها "العدالة" وهو الغرب بمؤسساته، مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة والمحكمة الدولية والإنتربول؛ بل وبعملائه من الأنظمة الفاسدة بالمنطقة العربية والأفريقية والآسيوية، وغيرها من مئات المنظمات التي تنبت كالفطريات دفاعا عن الغرب وقيمه ولو كان ذلك على حساب الآخرين، لا لشيء إلا لأنه يقود العدالة، ولكنه بكل أسف قائد مجرم.. واللعنة على عدالة يقودها مجرم.
وهذه العدالة الملعونة ليست بوصفها وبعناوينها، وإنما بمضامينها الفاسدة، التي لا تقر بحق لأحد إلا لمن كان يحمل مضامينها ومعانيها الاستبدادية التي تستمد قوتها من المنظومة الاستعمارية القديمة المتجددة في أشكال متنوعة، والباقية على أصولها الاستعمارية الطاغية..، والأسوأ في الأمر أن هذه العدالة الملعونة لم تعد من صناعة الغرب وحده لحفظ مصالحه خارج بلاده، وإنما أضحت صنعة ضحايا هذه العدالة أيضا، لأسباب مصلحية أضيق، طائفية قومية مذهبية سلطوية، فبدلا من أن يوجهوا أولئك الضحايا سلاحهم لمحاربة هذه العدالة الفاسدة، وجهوا سلاحهم للاستهلاك الداخلي، مستعملين "المنطق العدلي" ذاته مع بعضهم البعض..، فالشيعي يقتل السني على الهوية، والسلطة تسحق المعارض لن الشعب انتخبه، والمواطن يسحق جاره لأنه ليس من عصبته، وإلا ما الفرق بين ما تفعله الولايات المتحدة في العراق وما تفعله إيران؟ وما الفرق بين ما يفعل حزب الله اللبناني في سوريا وما تفعل روسيا فيها؟ وما الفرق بين ما يقوم به الحوثيون في حق الشعب اليمني وما تفعله قوات التحالف؟
لا شك أن منطق السياسة له لغته التي تبرر هذا الفعل أو ذاك، وما تقوم به هذه الفئة أو تلك، وإنما القاسم المشترك في كل ذلك هو أن هناك عدالة يقودها مجرم.. فاللعنة اللعنة على هذه العدالة.
فالشعوب لها الحق في تقرير المصير، في هذه العدالة الملعون قائدها، ولها الحق في ممارسة الديمقراطية، ولها الحق في العيش الكريم، ولكن ليس من حقها الاستقلال الذي تبحث عنه !!، ولا الحق في الفوز بالديمقراطية، ولا في نيل العيش الكريم، لأنها شعوب عاجزة عن إدراك ما يصلحها !! وعليه لا بد من استمرار الحجر عليها؛ لأنها ليست راشدة !! ولا بد من أن يختار لها الأقوياء "صاحب القرار الوطني" !! الذي يبقي على مصالح الكبار في البلاد الإسلامية بعد استقلالها المنقوص، والنتيجة بكل أسف لا يوجد حاكم عربي يثق في شعبه كما لا يوجد شعب في العالم الإسلامي العربي والإفريقي والآسيوي، يثق في حاكمه، وإذا وجد شيء من ذلك، فيعتبر من الشاذ الذي يحفظ ولا يقاس عليه... ومنطق هذه العدالة يحاربه بكل الوسائل.
ورغم أن لهذه الشعوب الحق في التمتع بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، حسب قرارات النظم المجروحة وباعتراف قائد العدالة الملعونة، غير أنها لا تملك الحق الذي يؤهلها للاستقلال التام، الذي تبني به منظومة حكم واقتصاد وتربية تغنيها عن الغرب؛ بل إن هذه الشعوب إذا تحركت بطريقة ما لتحقيق ما تريد، فإن آلة "التآمر الدولي" تتحرك لتحرمها من مجرد الانتفاض تعبيرا عن الوجود والحياة، وليس لبلوغ الغاية التي يتوجس منها الغرب خيفة.
ولعل من صور ذلك ما وقع بين أنور إبراهيم ومحمد مهاتير في ماليزيا التي حققت بعض ما يطمح إليه الشعب الماليزي، وكذلك ما وقع قبل أيام قلائل في تركيا... فماليزيا لم تعد تلك التي أبهرت العالم الإسلامي في مطلع التسعينيات، وتركيا يراد لها أن تصبح مثل سوريا.. شذرا مذرا...، إضافة إلى شواهد أخرى لم يرد لها قائد العدالة الملعونة أن تصل إلى ما وصلت إليه ماليزيا وتركيا.. فها هي السودان لا تزال تعيش الحصار الظالم رغم إجبارها على تقسيم البلاد..، والعراق الذي فتت تفتيتا، وسوريا التي لم تتوقف فيها آلة الدمار، ومصر المفتوحة على كل الاحتمالات بكل أسف واليمن الذي كان سعيدا.. بل من كان يصدق بوجود دولة بلا رئيس؟ نعم بلا رئيس !! منذ ماي 2014، أي منذ أكثر من ثلاث سنوات..، إنها لبنان التي تحتضن المقاومة التي تحولت إلى معول هدم بتدخلها في سوريا، كل ذلك لأن العدالة يقودها مجرم.. ولعنة الله على عدالة يقودها مجرم.
ورغم أن لهذه الشعوب الحق في الحرية والسلم الاجتماعي والرفاهية، وكان لا بد من الاعتراف لها بذلك، فينبغي ألّا يكون الاعتراف بمنطق العدل والإنصاف الذي جبلت عليه البشرية، وإنما ينبغي أن يكون ذلك وفق ما يريد ذلك المجرم الذي يقود العدالة في العالم، أن لا تكون الشعوب موحدة على قيمة ما أو فكرة ما أو اختيار ما، حتى لا تكون صنفا واحدا موحدا، فلا تكون دولة مسلمة مائة بالمائة، أو نصرانية خالصة أو حتى ملحدة متجانسة، وإنما لا بد من أن تتحول إلى مجتمعات متعددة الأعراق والديانات والتوجهات الأيديولوجية، متآكلة فيما بينها، ولا تكون مثل الأمريكان، الذين يمثلون النموذج الناجح للمجتمع المتعدد في العالم، ولا بد من وجود الأقليات، كـ"مسمار جحا"، وإذا لم تكن هذه الأقليات بشكل فلتكن بشكل آخر، فإن لم يكونوا يهودا ونصارى مثلا فليكونوا شيعة وسنة وإباضيين ودروز...، أو عربا وبربرا وتركا وأكراد...إلخ.
إنها العدالة، ولكنها عدالة يقودها مجرم بكل أسف....
وبالرغم من أن لهذه الشعوب الحق أيضا في أن تفكر كما تشاء، وتستنتج ما تريد، فإنها لا ينبغي أن ينسيها ذلك أنها تفكر بالتبع وليس بالاستقلال، أي أن من ارتقت به الأمور وأصبح عالما أو مفكرا أو مبدعا له إضافات للإنسانية، فمكانه ليس بلاده، وإنما عليه أن يخرج منها؛ لأن مكانه في أمريكا وفي فرنسا وألمانيا وليس في العالم الإسلامي، العربي والإفريقي والآسيوي..
اللعنة على عدالة يقودها مجرم
تلك هي العدالة التي يقودها الغرب المجرم، فهي عدالة لا تعترف بالقيمة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلا بالقدر الذي يحقق الرفاه لشعوبه هو وليس شعوب الآخرين، ولو كان ذلك على حساب تلك الشعوب المغبونة.. فالأمن القومي الأمريكي ليس الحدود الجغرافية، وإنما حيث توجد مصلحة الشعب الأمريكي، ولو كان بتحطيم العراق وأفغانستان والسودان، والعدالة الفرنسية تقتضي الرد على عملية انتحارية في باريس بانتقال حاملة الطائرات الفرنسية إلى سوريا انتقاما "من الإرهابيين الذين قاموا بالعملية الانتحارية"، أو هددوا بها.
إن العالم يعج بالخصوم الطبيعيين للغرب، ونزاعات الغرب لم تنته، ومع ذلك، إذا وقعت واقعة، فإن ما يخطر ببال المؤسسات الغربية أن الذي قام بالعملية.. اسمه محمد.. أو سمع يقول بسم الله.. أو رآه الناس يصلي في مكان ما..، وكل ذلك ليتم الإعلان عن أن العملية إرهابية.. والذي قام بها إسلامي؛ لأنها عدالة يقودها مجرم.. واللعنة على عدالة يقودها مجرم.
الشروق الجزائرية