وسط استمرار حالة الانقسام والاستقطاب وغياب المبادرات الحقيقية وحتى الشكلية لملف المصالحة الوطنية، تشكل الانتخابات المحلية التي ستجرى أو نأمل أن تجرى في أوائل تشرين الأول القادم، تشكل خطوة مهمة لم يكن من المتوقع أن تحظى بهذا الإجماع الفصائلي والوطني.
يغيب عن هذا المشهد الذي يستقطب اهتمام القوى السياسية، الاهتمام الشعبي، الذي لم يعد يصدق خطاب القوى السياسية، لكثرة ما تعرّض له المجتمع، من خيبات أمل وبسبب تدني مصداقية الخطابات الفصائلية.
إذا استمر هذا الوضع على حاله بالنسبة للمجتمع، فإن الانتخابات ستقتصر على التنافس بين الكتل الفصائلية، ما يؤشر على دلالات سلبية ليس على العملية الانتخابية ونتائجها فحسب، وإنما في الأساس على العلاقة بين المجتمع، وصناع السياسة والفاعلين فيها.
المراهنة إذا معقودة على بدء الحملات الانتخابية، التي من شأنها أن تحرك القطاعات السلبية في المجتمع، وتعيد الأمل بأهمية دور المواطن الذي عليه أن يمارس حقه الانتخابي وواجبه تجاه صياغة الحياة السياسية والمؤسسات الوطنية الخدمية وغير الخدمية.
في المشهد الراهن تتبارى الفصائل في إعلان نياتها الإيجابية جدا، ورغبتها في تقديم كفاءات بغض النظر عن الولاء السياسي، والكل يشحذ كل ما أوتي به من قدرة على استخدام اللغة، في تبرئة الذات من العصبوية والحسابات الفصائلية، ونحو تغليب المصالح العامة على الخاصة.
هذا الخطاب ليس جديدا، فهو يتكرر في كل مرة وعند كل محطة لها علاقة بالمجتمع، لكن النتائج في الغالب لا تتطابق مع هذا الخطاب، إذ تنقلب الممارسة على قواميس اللغة، لتؤكد في كل مرة أن مصالح الفصيل أهم وأسبق وأعلى من المصلحة الوطنية العامة.
من تابع خطابات القوى السياسية، قبل الانتخابات التشريعية التي جرت العام 2006، كان سيتوقع مشهدا حالما للوضع الفلسطيني، غير أن ما جرى بعد ذلك، لا يتعرف من قريب أو بعيد إلى خطاب ما قبل الانتخابات، ولعل الواقع الذي عشناه منذ تلك الانتخابات، يؤكد ما ذهبنا إليه.
في خطاب الدعاية الانتخابية، الكل ديمقراطي، والكل يسعى وراء الشراكة، ولتحقيق العدالة، والحكم الصالح، والكل يحترم إرادة الشعب، والكل مستعد للانصياع للقانون، والتعامل مع الناس على أساس المساواة. الحالة الواقعية الملموسة تجيب عن كل مفردات خطاب التودد والتزلف، والنفاق، الناس عموما خبرت تلك الخطابات، وهي تعرف بالضبط الحال التي عليها فصائل العمل الوطني، التي لم تبدل من جوهر رؤاها وكيفية تعاملها مع الجمهور، وإلاّ فما كان هذا المشهد المأزوم بكليته وبأدق تفاصيله، وينهش من روح الصمود والتضحية، والشعور بالكرامة الوطنية.
وإذا كان المستقلون، سواء المتجمعون أو الفرادى لم يقدموا ما يعبر عن توجهاتهم إزاء إمكانية خوضهم الانتخابات، فإن المشهد قد استقر حتى الآن على ثلاث كتل، هي: كتلة حركة فتح التي لم يعد ثمة شك في أنها ستخوض الانتخابات موحدة، وكتلة حركة حماس وربما معها أو تؤيدها حركة الجهاد الإسلامي، وكتلة اليسار التي ستشكل من الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وحزب الشعب وحزب فدا والمبادرة الوطنية.
كل هذه الكتل، تتحدث عن أنها ستعمل على تقديم كفاءات بغض النظر عن انتمائها الحزبي، ولم يصدر عن أي منها ما يفيد بأنها تتوجه لمعركة كسر عظم، أو تتوجه نحو الاحتكار السياسي. أما الرسائل التي يتداولها بعض المحسوبين على هذا الطرف أو ذاك، فإنها تؤكد أن الكل مستعد للالتزام بنتائج الانتخابات مهما كانت.
ثمة شهران على موعد الانتخابات وهي كفيلة بأن تغير المشهد الذي يبدو مستقرا عند الكتل الثلاث، وهناك من يتحرك من المستقلين بين الكتل الثلاث لتقديم مبادرات إيجابية، تمنع أن تكون النتائج في صالح استمرار الانقسام.
في الواقع، فإن هذه الانتخابات تشكل فرصة حقيقية، وتجربة يمكن القياس عليها، لفحص نوايا وسياسات الفصائل تجاه المصالحة، وتجاه الإخلاص لخطاب إعادة توحيد المؤسسة الوطنية، وتجاه الانتخابات التشريعية والرئاسية، وفي الأساس فإنها تشكل اختبارا عمليا لادعاءات الالتزام بالشراكة والعملية الديمقراطية.
صحيح أن الانتخابات ستتم على أساس نظام النسبية، ما يعني أنه لا مجال لطرف أن يحتكر النتائج، وحيث سيحصل كل طرف على حصة، ولكن ثمة ما هو أفضل من ذلك.
إذا كان الجميع يتحدث عن أولوية الكفاءة على الالتزام الحزبي وعن تغليب المصلحة العامة على الفصائلية، فإن الأفضل هو أن تذهب الفصائل إلى صناديق الاقتراع بقوائم متفق عليها، تعتمد الكفاءة ولا تسمح لطرف أن يدعي الانتصار على الآخر.
هل هذا ممكن؟ لم تخضع هذه الفكرة للتجربة، ولذلك فإن النتائج حتى الآن جلبت الانقسام والمزيد من الانقسام، ولذلك بات على الجميع أن يجرب هذا الخيار، فإن نجح فإنه سيشكل بادرة خير نحو توافق وطني يعيد صياغة المشهد السياسي كله، على أساس من الشراكة واحترام الآخر والتكامل.
هذا ما يجب أن يعمل عليه الوسطاء والمخلصون لمبادئ الإصلاح والوحدة، وتغيير هذا الواقع المتردي والمؤلم.
الأيام الفلسطينية