الآن حصحص الحق، واعترفت وزيرة التربية الفرنسية نجاة فالو بلقاسم بأن وزارتها ساهمت في "الإصلاحات التربوية" بالجزائر، وأن دورها لا ينحصر في تكوين الأساتذة فحسب، بل يتعدّاه إلى تكوين المكوِّنين والمفتشين وحتى مديري المدارس الذين سيرافقون هؤلاء الأساتذة في تطبيقها، واعتبرت ذلك "دورا نافعا" لفرنسا في هذه "الإصلاحات"، وأكّدت أن هناك "تقدّما جيدا" في هذا المجال، ينبغي أن يتحوّل إلى "شراكة قويّة"!
بعد هذا الاعتراف المدوّي، ما الذي يمكن أن تقوله الوزيرة بن غبريط التي طالما "استماتت" في نفي أيّ دور لخبراء التربية الفرنسيين في وضع مناهج ومقررات "الجيل الثاني من الإصلاحات التربوية" وزعمت أن لجنة الـ200 خبير جزائري هي التي وضعتها، وأن دور الفرنسيين اقتصر على "تحسين الأداء المهني في بعض التخصّصات"؟!
الآن لم يعُد هناك شكّ في أن ما اقترحته لجنة بن زاغو الذي كانت بن غبريط عضوا فيها، سيُطبّق بحذافيره في عهدها، وبمساعدة "قوية" من فرنسا؛ ويتعلّق الأمر بفرْنَسة المواد العلمية في التعليم الثانوي، في مرحلة أولى، بدعوى تحضير التلاميذ لدراسة العلوم الدقيقة في الجامعة باللغة الفرنسية، وبعدها تمتدّ فرْنسة هذه المواد إلى التعليم المتوسط، ثم الرياضيات في الابتدائي، والحجّة ستكون نفسها في كل مرّة: تحضير التلاميذ للمراحل الدراسية المقبلة، وستتكفل فرنسا على مدار سنوات عديدة بتكوين أساتذة هذه المواد والمكوِّنين والمفتشين باللغة الفرنسية ومرافقتهم لضمان نجاح العملية.
ما نعيشه منذ سنوات طويلة في الجامعة من انقسام لغوي يميّزه فرْنَسة العلوم الدقيقة وتعريب العلوم الإنسانية، سيصل إلى كل أطوار التعليم، فتُدرّس الموادُ العلمية بالفرنسية ولا يبقى للعربية سوى الأدب والتربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا والتربية المدنية؛ مع إخضاعها بدورها لتعديلات واسعة في مضمونها، بذريعة مواكبة القيم العالمية كالحداثة وحقوق الإنسان ومكافحة التطرّف والعنف... وغيرها من المسمّيات والمسوغات.
هذا الانقسام اللغوي كان يمكن أن ينتهي بتطبيق قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي ينصّ بوضوح على تعريب الجامعة، لكن السلطة لم تكتفِ بتجميد القانون قرابة رُبع قرن، بل قرّرت الآن العمل في الاتجاه المعاكس له؛ أي تعميم استعمال الفرنسية في مختلف أطوار التعليم بدل تعريب التعليم العالي!
إنها "إصلاحات" بهُوية فرنسية، تستهدف ضرب اللغة العربية في معقلها الرئيس وهو المدرسة، وإضعافَها، والاستبعاد النهائي لأيّ منافسة من الإنجليزية، وإعادة الفرنسية بقوّة إلى كل أطوار التعليم، ومنحَها الاحتكار كلغة أجنبية وحيدة في تدريس المواد العلمية، فتفقد اللغة العالمية الأولى أيّ تأثير لها وهي التي يعترف بها العالمُ أجمع إلا الأقلية الفرنكفيلية المتغلغلة في دواليب الحكم بالجزائر، بل حتى العربية نفسها ستصبح كما يريدها الفرنكفيل: لغة شعر وأدب وفقه... فحسب، ولا علاقة لها بالعلوم التي ستحتكرها الفرنسية.
لقد ضحّى الشعب بمليون ونصف مليون من خيرة أبنائه لإخراج فرنسا من البلاد، لكن ها هي تُمكَّن من العودة إليها مجدّدا من بوّابات عديدة أخطرها المدرسة!
عن صحيفة الشروق الجزائرية