عندما يكون برنامج الحكومة: "هو يسرق أنت تخلص"

قبل الحملة الانتخابية الأخيرة توجه الرئيس الحالي التونسي الباجي قائد السبسي إلى الناخبين قائلا إن برنامج حزبه نداء تونس الاقتصادي "إذا اطلعتم عليه سيغمى عليكم" ("وقتلي تشوفوه بش اتدوخو") مشيرا إلى اهميته الكبرى. الآن بعد مرور أشهر طويلة على الانتخابات وتقلد السبسي وحزبه مقاليد السلطة، مدعوما بتحالف أغلبي في مجلس نواب الشعب خاصة من حركة النهضة، يمكن لنا أن نقول إن الشعب التونسي سيغمى عليه فعلا. ليس بسبب إنجازات برنامج السبسي، بل بسبب الفشل غير المسبوق الذي لا يحتمل أي مقارنة مع أي حكومة سابقة، وربما حتى  لاحقة. إذ إن التقديرات الحالية تحدد نسبة النمو هذا العام في حدود 1% أو حتى أقل، في حين كانت وعود السبسي وحزبه تفترض نموا في حدود 5% وتتحدث عن استثمارات خارجية، تصل ‘لى عشرات آلاف المليارات.  

بعد انتظار تواصل لسبعة أشهر وقبل أشهر قليلة من نهاية السنة، صادقت أخيرا الحكومة التونسية والرباعي الحاكم الذي يقف خلفها (خاصة حزبي النداء والنهضة) على الميزانية التكميلية لهذه السنة. إذا اعتبرنا الجدول الزمني الأكثر تفاؤلا سيتم المصادقة عليها من مجلس نواب الشعب في شهر سبتمبر، وهو ما يعني أن برنامج الرباعي الحاكم الاقتصادي لسنة 2015، الذي يتمثل أساسا في هذه الميزانية التكميلية، بما أن الميزانية الأولية كانت تعبر على برنامج حكومة التكنوقراط السابقة، لن يتبقى سوى أشهر معدودة على تنفيذها. هذا وحده يعكس حالة الضياع والتشتت الذهني لهذا التحالف الموجود لتلفيق توافق سياسوي تم في الغرف المغلقة قبل الانتخابات وبمعزل عنها. ولكنه لا يعني غياب توافق في الرؤية الاقتصادية العامة بين هذه الأحزاب، التي ستصبح خماسيا حاكما بعد انضمام حزب تحصل على مقعد وحيد في الانتخابات الأخيرة.

أهم القوانين والمبادرات للحكومة الحالية تتمثل حتى الآن فيما يلي:

- قانون "المصالحة الوطنية" الاقتصادي الذي يركز على وقف كل التتبعات للمتورطين في فساد مالي من رجال أعمال أو مسؤولين في الإدارة، بما يطوي دون أي محاسبة ملفات الفساد الكبرى في البلاد، وبما يؤدي إلى تطبيع ممارسة الفساد، وطمأنة الفاسدين أن الفساد لا يؤدي للمحاسبة، وأن هناك دائما في النخبة السياسة من يمكن أن يبيض الفاسدين. 

- قانون "إعادة رسملة البنوك العمومية" الذي تضغط من أجل تمريره المؤسسات المالية الدولية، وحاولت كومة التنوقراط تمريره عبر المجلس التاسيسي في سبتمبر 2014 لكنها لاقت رفضا حينها، والذي يستهدف سد العجز الكبير في ميزانيات ثلاثة بنوك عمومية أساسية معرضة للإفلاس، وتضررت من منح قروض دون ضمانات وبطريقة المحاباة خلال عقدين على الأقل، لحاشية نظام بن علي والمقربين منه، والذي لم يسددو قروضهم. في مارس 2014 في جلسة مغلقة في المجلس التاسيسي قدر محافظ البنك المركزي قيمة الديون "المشكوك في خلاصها" بحوالي 12 إلف مليار. هذا القانون الذي يتم الدفع للمصادقة عليه دون اطلاع الرأي العام، بل أيضا قسم كبير من نواب الشعب على تقارير التدقيق للبنوك العمومية الثلاثة، سيتم تنفيذها عمليا منذ هذا الشهر على الأقل بالنسبة لأحد  هذه البنوك. 

- إجراء عاجل لإعادة جدولة قروض أصحاب المؤسسات السياحية وتوفير مساعدات في شكل هبات اليهم لـ"إنقاذ الموسم السياحي". هذا في الوقت الذي تقوم فيه قطاعات أخرى خاصة منها الفلاحة (تصدير زيت الزيتون على وجه الخصوص) بتقليص عجز الميزان التجاري، وفي وقت يدرك فيه المختصون بما في ذلك دراسات جدية قامت بها مكاتب دراسات دولية، أن بنية وتركيبة قطاع السياحة تحتاج مراجعة كاملة، وأنه متخلف بشكل كبير عن المستويات العالمية خاصة بسبب تبعيته لما يسمى tours operateurs وفقدانه لمنظومة إعلامية، تجعله في اتصال مباشر مع الحرفاء السياحيين، وأيضا بسبب تكلس مؤسسة النقل الجوي العمومية وعجز ميزانيتها وعدم قدرتها على توفير منافسة جدية، مقارنة بدول أخرى في شمال إفريقيا. وفي الأثناء يواصل أصحاب المؤسسات السياحية التمتع بامتيازات جبائية وبنكية، رغم أنهم عامل أساسي في تواصل تأزم قطاع السياحة.

- قانون "الشراكة قطاع عام قاع خاص" الذي أثبتت التجارب الأوروبية خاصة الفرنسية والبريطانية أنه يمثل منظومة لمحاباة لوبيات رجال أعمال، ويمنح قروضا غير مباشرة ولا يحترم إجراءات الصفقات العمومية. ولعل مثال "مطار النفيضة" والمشاكل المترتبة عنه مثال واضح على ثغرات الفساد في هذا النوع من المشاريع.   
 
- الاطلاع الأولي على الميزانية التكميلية يعكس تجاهلا لموضوع أساسي وهو التهرب الضريبي، خاصة لرجال الأعمال وأصحاب المهن الحرة، في حين أن قيمة هذا التهرب يمكن أن يصل إلى بضعة آلاف من المليارات، التي يمكن تحصيل -على الأقل- ألفي مليار منها على أقل تقدير. في المقابل يهدد وزير المالية بتقليص الأجور ووقفها حتى ومزيد التداين، محملا المسؤولية أساسا لطلبات الزيادة في الأجور ويصمت في المقابل على أي مسؤولية لحاشية بن علي، التي انتقل دعمها الآن لحزب السبسي على الوضع الحالي. 

وعليه يمكن أن نلخص الرؤية الاقتصادية التوافقية بين الرباعي الحاكم ممثلة في خطط وبرنامج وميزانية الحكومة في الشعار التالي: "#هو_يسرق و#أنت_تخلص" ("تخلص" في الدارجة التونسية تعني: تدفع). 

تتوافق ضمنيا أحزاب الرباعي الحاكم بقيادة حزب النداء على مسلمة اقتصادية أساسية، وهي أن المحرك الوحيد للاقتصاد هو رجل الأعمال. ويجب القيام بكل التنازلات الممكنة لإرضائه و"تشجيعه" على الاستثمار، وأن من يجب أن يتحمل ثقل الأزمة، هو دافع الضرائب من ذوي الدخل الضعيف أو المتوسط، وحتى بعض المبادرات التي تستهدف طمأنة الأخيرين، يتبين شيئا فشيئا شعبويتها، مثل القرض دون فائدة على 15 سنة للمنازل التي تكون قميتها 150 ألف دينار تونسي، والتي لا يمكن حاسبيا منحها لمن يكون دخلهم الشهري أقل من 4 آلاف دينار تونسي شهريا. 

وحتى تفضيل منطق الاستثمار الخاص على الاستثمار العمومي، لا يعكس رؤية استراتيجية واضحة لدى الرباعي الحاكم كما يمكن أن يظهر من "مجلة الاستثمار" والتي يتم نقدها على أكثر من صعيد أهمها عدم الانسجام بينها وبين قوانين قادمة. 

هذه الفلسفة التي تحابي فئة اجتماعية على فئات اجتماعية أخرى تشكل الأغلبية، لا تعكس أيضا محاباة لطبقة رجال الأعمال عموما بل تمثل محاباة للوبيات كانت ولاتزال متنفذة ومثلما كانت حاشية النظام السابق نجحت نسبيا في التموقع لتكون حاشية منظومة الحكم الحالية. وفي الحالتين فإن المنوال التنموي يواصل ما كان عليه الوضع قبل الثورة وما سماه أحد تقارير البنك الدولية بـ"رأسمالية المحاباة".  أو مرة أخرى: "هو يسرق وأنت تخلص".