نبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى في حاجة لأن نستحضر قوله تعالى: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة}، نحتاج أن نفقهه واقعاً علّه يذيب حواجز القُطرية التي قصّرت من مدى الرؤية لدينا حتى صارت الحدودُ الجغرافية مقدّسات، ومثلها العصبية الوطنية التي يتلاشى في سبيلها حضور الهم العام للأمة من وعي الأجيال التي تُربّى على مفهوم تقديس الذات الوطنية شعباً وحدودا، وامتهان ما سواها.
تجليات التحوّلات العربية منذ أحداث الربيع العربي كشفت بوضوح أن مأساة كل ساحة داخل الأمة هي جزء من مأساتها الكلية، كما بيّنت في المقابل أن النزعة القُطرية في كل منها جعلت أبناءها يحسبون ساحتهم وحدها محور الكون وأهم قضية فيه. رغم أن شرارة (الثورات المضادة) حين أُطلقت لاحقاً استهدفت الظاهرة ككلّ وليس بلداً دون آخر، أي استهدفت إرادة التغيير والثورة، ورامت قتل قناعة الأمة بجدوى هدم بنيان الاستبداد. ذلك أن أعداء الأمة يعرفون أكثر من بنيها بأن سرّ قوّتها في توحّدها على همها الجمعي، وليس بتقوقع كل ساحة فيها على همومها الخاصة وإحلال ثوابت دخيلة مكان ثوابت الأمة الأساسية وعناصر قوّتها ومكامن نهضتها وسبل رجوعها عن خيار الضعف والاستكانة إلى مسار التحرر والانبعاث.
وقد رأينا كيف بات مجرّد إبداء الرأي في أحداث ساحة ما داخل الأمة جالباً للهجوم والتشنيع من قِبل حملة شعار (عدم التدخل في شؤون الآخرين)، رغم أنك تجد هؤلاء المهاجمين أنفسهم لا ينفكّون يطالبون هؤلاء (الآخرين) بالتدخل لصالح قضيتهم الخاصة، مثلما نجد أبناء كل بلد داخل الأمة يطالبون أبناءها في بلاد أخرى بالانتصار لهم إذا ما دهمهم خطر أو أذى. غير أن هذه الازدواجية لا يفطن لها من يتورطون فيها حين يجزئون القضايا ويقسّمون الهموم وفق هواهم أو ما يرونه هم أولوية دون غيره استناداً إلى قراءات مبتورة لواقع الأمة ككل أو للواقع القُطري الخاص في هذا البلد أو ذاك.
ومع ذلك، فالوعي بهمّ الأمة العام لا يعني إغفال أولوية الساحة الخاصة والالتفات إلى همومها ولزوم العمل فيها، إنما المذموم هو التحول مع الوقت إلى (الشوفينية) التي لا تبصر أبعد من حدود رسمها المستعمر، فتراها مقدسة دون غيرها، وترى شعبها كله ذا صفات اصطفاء خاصة وله امتيازات دون غيره من الشعوب، حتى وهو يحوي الصالح والطالح، والعامل والمتخاذل، شأنه شأن أي تجمّع بشريّ على وجه الأرض.
قبل مدة تنبأ مركز أبحاث غربي بأن العقد الحالي سيشهد إزالة حدود (سايكس بيكو) داخل الأوطان العربية، ومع أن التغيّرات المتسارعة والحاسمة تشي بهذه الإمكانية، لكن تبقى هناك معضلة كبيرة تستوطن العقول، وستأبى ذلك الخيار وستحاربه بقوة، لأنها نشأت على تقديس الحدود والذات الوطنية فقط، وسقط من اعتبارها الانتماء للأمة، وحبست أحلامها وتطلّعاتها داخل حدودها الجغرافية، ويا ليتها كانت حدوداً من صنعها أو توافقها أو اختيارها!
نحتاج اليوم إلى غرس مفهوم الأمة في وعي الأجيال الناشئة التي يعوّل عليها لإنجاز تحرير الأمة وردّ الاعتبار لمكانتها، وهي مهمة جليلة وتنتظر أن يبادر إليها المفكرون والدعاة والمثقفون، بعد أن يؤمنوا أولاً بأهمية هذا المفهوم وضرورته، مع ما يترتب عليه من تغيير لبعض المسلّمات المشوّهة التي لا ينفكّ كثيرون يعتنقونها دون تمحيص، ولمجرّد أنهم توارثوها ووجدوها محلّ احتفاء وتبجيل، رغم ما يحويه جوهرها من عوامل تفتيت وتشتيت وتجزئة، حتى بات كثير من أبناء الأمة آلات صمّاء، ذاهلة عن غاية وجودها وسموّ مكانتها وأسرار حضارتها.